الوقت – بالتزامن مع التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين الکيان الصهيوني وحرکة حماس، تركز الاهتمام على مسألة ما سيحدث على الساحة الميدانية والسياسية بعد انتهاء وقف إطلاق النار الذي دام ستة أيام، ويمكن اقتراح عدة سيناريوهات للإجابة على هذا السؤال.
السيناريو الأول: تبادل الأسرى حتى وقف دائم لإطلاق النار
السيناريو الأول الذي تتم مناقشته بشأن غزة بعد وقف إطلاق النار، هو أن يستمر الطرفان في وقف الأعمال العدائية حتى تبادل جميع الأسرى الصهاينة، الذين لا يزال 170 منهم في أيدي حماس، حسب تل أبيب.
وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومسؤولون آخرون في تل أبيب، قد قالوا في وقت سابق إن الحرب في غزة ستنتهي عندما يتم إطلاق سراح جميع الأسرى.
ورغم أن سلطات تل أبيب، إلى جانب هذه التصريحات، تؤكد على الهجمات واسعة النطاق على غزة حتى القضاء على حماس، لكن هذا هو السيناريو الأرجح حيث يحاول الوسطاء القطريون والمصريون لدى الولايات المتحدة مواصلة هذه العملية، حتى يتم التوصل إلى اتفاق شامل لوقف إطلاق النار، والذي بالإضافة إلى تنفيذ عملية إعادة الإعمار وتبادل الأسرى، يضمن وقف إطلاق النار على المدى الطويل.
ولذلك، فإن وقف إطلاق النار المتتالي يمثل فرصةً جيدةً للتوصل إلى وقف إطلاق نار مستدام، كما قالت وسائل إعلام عبرية إن دافيد بارنيا، رئيس الموساد، توجه إلى قطر للمرة الثانية للقاء والتحدث مع سلطات هذا البلد، ويبدو أن مسألة وقف إطلاق النار والإفراج عن الأسرى تتصدر مواضيع هذه اللقاءات.
ومن ناحية أخرى، فإن سياسة أمريكا، باعتبارها الداعم الأكبر للكيان الصهيوني، مؤثرة أيضًا في تمديد وقف إطلاق النار، فالإدارة الأمريكية، رغم دعمها الواسع لجرائم الكيان الإسرائيلي في غزة، تشعر بالقلق من إطالة أمد الحرب، ولهذا السبب فهي ترحب بتمديد وقف إطلاق النار.
وقال جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، في مقابلة مع شبكة "سي إن إن" يوم الاثنين الماضي: "نأمل أن توافق حماس على تمديد وقف إطلاق النار، حتى نتمكن من تبادل المزيد من الأسرى".
إدارة جو بايدن ليست متفائلةً كثيراً بانتصار الجيش الصهيوني في غزة، ولذلك فهي تحاول إنهاء الحرب في غزة، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى إضعاف کيان الاحتلال، كما أن واشنطن قلقة للغاية من رد فعل فصائل المقاومة في المنطقة، وهناك احتمال أنه مع استمرار الهجمات على غزة، ستشتعل نيران الحرب في المنطقة، لذلك، فإن تغير اللهجة الأمريكية في الأيام الأخيرة ومحاولة تمديد وقف إطلاق النار، يقلل من قدرة الکيان الإسرائيلي على المناورة لمواصلة القتال مع حماس.
ومن ناحية أخرى، يعاني الجيش الصهيوني أيضًا من التآكل، ورغم استدعاء 300 ألف جندي احتياطي، إلا أنه فشل في تحقيق أهدافه في غزة، والمشاكل الداخلية للكيان الصهيوني، هي أيضًا إحدى العقبات التي تدفع هذا الکيان إلى تمديد وقف إطلاق النار.
ففي الأسابيع الأخيرة، ارتفعت موجة الاحتجاجات ضد حكومة نتنياهو من قبل المستوطنين الذين يطالبون بإقالة نتنياهو من السلطة، لأنهم يرونه السبب الرئيسي للأزمة وانعدام الأمن في الأراضي المحتلة.
لقد أثارت الانقسامات الداخلية قلق نتنياهو، وفي هذا الصدد قال عضو بارز في حزب الليكود لصحيفة يديعوت أحرونوت، إنه جرت في الأيام الأخيرة مشاورات سرية داخل الحزب بشأن مستقبل نتنياهو السياسي وإقالته.
وأوضح أن نتنياهو يخشى حدوث انقلاب سياسي ضده داخل الليكود، وقال إن أعضاء الحزب درسوا إمكانية التصويت على حجب الثقة عن نتنياهو، وتتم مناقشة أسماء عدة أشخاص ليحلوا محله. ولهذا السبب، التقى نتنياهو بأعضاء الليكود في الكنيست يوم الثلاثاء الماضي، للتأكد من احتفاظه بموقعه في الحزب.
ومن ناحية أخرى، أدت المشاكل الاقتصادية الناجمة عن الحرب في غزة، إلى زيادة الضغوط على الحكومة، وأعلن أمير يارون، رئيس البنك المركزي للكيان الصهيوني، الثلاثاء الماضي، أن الحرب في غزة لها عواقب وخيمة، وأن تكاليف هذه الحرب وصلت إلى 53 مليار دولار حتى الآن، ولذلك، فإن الأزمة الاقتصادية، إلى جانب الضغوط السياسية، ستشكل تحدياً كبيراً للحكومة لمواصلة الحرب في غزة.
السيناريو الثاني: حرب الاستنزاف
رغم كل هذا، لا يمكن تجاهل احتمال بدء جولة جديدة من الصراع، حيث تدعي السلطات الصهيونية أنها ستواصل الحرب حتى يتم إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين، وتدمير القوة العسكرية لحماس بالكامل.
وإذا افترضنا أن حماس ترفض تسليم جميع الأسرى الصهاينة دون تحقيق أهدافها المرجوة، والتي جعلت عملية تبادلهم مشروطةً بالإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين، فإن الکيان الإسرائيلي قد يستأنف هجماته الواسعة.
اعتقدت حكومة نتنياهو أنها تستطيع في فترة قصيرة تدمير حماس وضمان أمن المستوطنين، لكن مع استمرار الصراعات، أدركوا أن تصوراتهم كانت مختلفةً عما يحدث على الأرض، واعترف غالانت بأن تقديراتهم كانت خاطئةً، لكنه زعم أنهم سيواصلون الحرب حتى يتم القضاء على حماس.
لكن بما أن جيش الکيان غير مستعد لحرب طويلة، فمن المتوقع أن تأخذ الحرب مساراً تآكلياً، والحقيقة أن الکيان الإسرائيلي لا يستطيع الاحتفاظ بثلثي قواته، وأغلبهم من جنود الاحتياط، حول غزة إلى الأبد، وذلك في معركة يكون فيها احتمال النصر غير واضح.
من خلال حرب الاستنزاف، يمكن لنتنياهو أن يظهر أنه يعطي الأولوية لضمان أمن الأراضي المحتلة ولن يتراجع عن هذا البرنامج، وأن إطالة أمد الصراعات ستحقق أهدافه الرئيسية، وهي إضعاف حماس وتدميرها إذا لزم الأمر، ومن ناحية أخرى تمديد فترة وجوده في السلطة لبعض الوقت، وهو السيناريو الذي يشكك المحللون في تنفيذه بسبب الوضع الحالي في الأراضي المحتلة.
السيناريو الثالث: حرب محدودة
بالإضافة إلى السيناريوهين المذكورين أعلاه، فإن أحد السيناريوهات التي يمكن تصورها للتطورات في غزة بعد وقف إطلاق النار، هو استئناف الحرب بأبعاد محدودة.
وقد أعلنت القناة 12 الإسرائيلية، أمس، "في الأيام المقبلة، سننتهي مما يحدث في إطلاق سراح الأسرى، وعلينا بعد ذلك اتخاذ قرار صعب بشأن كيفية المضي قدمًا من الآن فصاعداً".
ومع ذلك، كتبت صحيفة هآرتس مؤخراً في تقريرها، أنه في الوقت نفسه الذي يتم فيه وقف إطلاق النار في غزة، فإن قادة الجيش يضغطون على الحكومة لوقف الصراع، لأن القوات، حسب رأيهم، لم تعد قادرةً على مواصلة الحرب كما كانت من قبل.
كما أفادت صحيفة "يديعوت أحرانوت"، وهي صحيفة صهيونية بارزة أخرى، بأنه خلال حرب غزة هرب أكثر من 2000 جندي إسرائيلي من الخدمة في الجيش، وهو ما يعتبر أكبر انتهاك للجيش منذ تأسيسه، ولذلك، إذا استمرت الصراعات سيزداد التمرد والعصيان بين القوات العسكرية.
كل هذا الارتباك واليأس لدى الإسرائيليين، يظهر أنهم لا يرون أفقاً إيجابياً لاستمرار الحرب، كما قال يوآف غالانت، وزير الحرب في الكيان الصهيوني، إنه بعد انتهاء وقف إطلاق النار، ستكون حماس أكثر استعدادًا، وطلب من الجنود الذين تحت قيادته أن يكونوا مستعدين لقوة أقوى من ذي قبل.
لقد أصبحت سلطات تل أبيب تعتقد أن تدمير حماس مهمة صعبة أو حتى مستحيلة، لأنهم خلال 50 يوماً لم يفشلوا في تدمير هذه الحرکة فحسب، بل فشلوا أيضاً في اكتشاف أنفاق حماس ومخبأ الأسرى الصهاينة، ويدرك المسؤولون الإسرائيليون أن شبكة أنفاق حماس معقدة، وأن تدمير مباني حماس تحت الأرض سوف يستغرق شهوراً.
والأمر الآخر هو وجود أكثر من مليوني فلسطيني متمركزين في جنوب غزة، والذين يخطط الکيان الصهيوني لنقلهم إلى مصر واحتلال هذه المنطقة بشكل كامل، لكن لا مصر مستعدة لقبول هذا العدد من الناس، ولا الفلسطينيون مستعدون لمغادرة وطنهم، وسيعطل المدنيون تقدم الآلة الحربية للجيش الصهيوني.
وفي مثل هذه الظروف، تكون الحرب المحدودة أكثر توافقاً مع القوة العسكرية الإسرائيلية والظروف الاقتصادية والسياسية، وفي هذا السيناريو، يتم استبعاد التدمير الكامل لحماس من الطاولة، ويتم التركيز على تقديم أقل قدر من التنازلات لإطلاق سراح جميع السجناء الإسرائيليين.
وحكومة نتنياهو التي تتعرض لضغوط داخلية، ستحاول مواصلة الحرب لفترة قصيرة، من أجل التظاهر بأنها لا تقدم لحماس تنازلات، وأيضاً لإرضاء الرأي العام الداخلي بإطلاق سراح جميع السجناء وإمكانية تحقيق إنجازات نسبية في هذا المجال.
ونتيجةً لذلك، فإن الوضع الأمثل للصهاينة في هذا السيناريو، هو إضعاف البنية التحتية العسكرية لحماس في شمال غزة، وخاصةً القدرة على إطلاق الصواريخ على الأراضي المحتلة في المستقبل. ومن ناحية أخرى زيادة أمن المستوطنات الصهيونية من خلال إنشاء منطقة عازلة بين غزة والمستوطنات.
لكن في سبيل تحقيق هذه الأهداف، هناك تحديات جدية في طريق جيش الاحتلال، لقد أظهرت حماس خلال الشهرين الأخيرين أن لديها الأدوات الممكنة لضرب الکيان، ولم تتمكن الهجمات المكثفة من البر والجو والبحر من إضعاف هذه الحركة الفلسطينية، وهذه القضية تجعل سلطات تل أبيب تتصرف بشكل أكثر عدوانيةً في فترة ما بعد وقف إطلاق النار.
إن اعتراف تل أبيب بإصابة ألف من جنودها في حرب غزة وقتل أكثر من 70 منهم، يدل على أن فصائل المقاومة وجهت ضربات موجعة للکيان، وإذا استمرت الصراعات فإن خسائره ستكون أكبر بكثير من ذي قبل.
تشير المعطيات والحقائق الميدانية في غزة إلى أن فصائل المقاومة هي صاحبة اليد العليا، وأن جيش الاحتلال فشل في تحقيق أهدافه، وهو ما يدفع نتنياهو إلى الموافقة مرةً أخرى على وقف دائم لإطلاق النار بشروط حماس، لمنع وقوع المزيد من الضحايا.