الوقت- مع التنفيذ المرحلي لصفقة تبادل الأسرى بين حماس والكيان الصهيوني، أصبح أهل غزة سعداء بعودة الأسرى بعد ستة أسابيع جهنمية من العيش تحت القصف، وقد تم بذلك تخفيض بعض من آلامهم، إن إجبار الصهاينة على قبول شروط المقاومة وفشل العملية البرية قد أشعل ضوء الأمل في قلوب العديد من العائلات التي كانت تنتظر إطلاق سراح أحبائها من سجون الكيان منذ فترة طويلة، لكي يتمكن قطاع أوسع من الأسرى الفلسطينيين، مع استمرار تطورات المقاومة، من العودة إلى ديارهم.
لكن من بين المحررين، لا شك أن هناك فراغًا لبطل عظيم، حارب القوات الصهيونية بالسلاح ليس في الأنفاق السرية، بل على الأرض بيديه العاريتين، وهو الدكتور محمد أبو سلمية، رئيس مستشفى الشفاء، الذي عمل مع زملائه على مدار الساعة لإنقاذ آلاف الأرواح خلال الحرب، وحتى في خضم القصف المستهدف للمستشفيات والمراكز الطبية، رفض الاستسلام تحت الضغط واستمر في أداء واجبه حتى الأسبوع الماضي، وأثناء هجوم الجيش الصهيوني على هذا المستشفى، تم اعتقال الدكتور أبو سلمية ونقله إلى مكان مجهول.
وبعد تسرب أنباء الاعتداء الغاشم لجنود الجيش الصهيوني داخل مستشفى الشفاء، أعلنت منظمة الصحة العالمية، الجمعة الماضية، أنها لا تعرف مصير محمد أبو سلمية، مدير مستشفى الشفاء بغزة.
وأعلنت المنظمة في بيان لها أن أبو سلمية اعتقل (من قبل الجيش الإسرائيلي) في 22 تشرين الثاني/نوفمبر، مع خمسة آخرين من العاملين في المجال الصحي، أثناء مشاركتهم في مهمة تقودها الأمم المتحدة لإجلاء المرضى
وأوضحت المنظمة أنه "تم إطلاق سراح اثنين من العاملين الصحيين الستة المعتقلين، لكن لا توجد معلومات عن الوضع الصحي للأشخاص الأربعة المتبقين، ومن بينهم رئيس مستشفى الشفاء".
وقاوم ضغوط الجنود الصهاينة الذين حاصروا المستشفى بدبابة حتى اللحظة الأخيرة، ورفض الخروج من المستشفى لإنقاذ حياته ليبقى مع الجرحى واللاجئين، وتم أسره في النهاية.
وفي تبريره لأسر الدكتور أبو سليمة، استخدم الجيش الإسرائيلي العذر السابق نفسه لتبرير الهجمات على المستشفيات ومذبحة الجرحى واللاجئين، وفي بيان صادر عن الجيش الصهيوني، تم اعتقال أبو سليمة من قبل الشاباك (شرطة الأمن الداخلي الإسرائيلي) بعد حصوله على أدلة تثبت أن مستشفى الشفاء كان بمثابة مركز قيادة وسيطرة لحركة حماس تحت إدارتها المباشرة، وتم نقله للتحقيق معه".
وبينما كان الجيش الصهيوني قد أعلن في وقت سابق أن مقر حماس يقع تحت مستشفى الشفاء، إلا أنه بعد الاستيلاء على المستشفى وعدم العثور على أدلة كافية، فقد أعطى سببا آخر لهذه العملية، وادعى هذه المرة أن حماس تستخدم الكهرباء والوقود من المستشفى لإضاءة شبكة أنفاقها.
من ناحية أخرى، ادعى أفيخاي أدرعي، المتحدث باسم الجيش، أن حماس استخدمت المستشفيات كسجون مؤقتة للأسرى الإسرائيليين، وبالتعاون مع أبو سليمة تم نقل عدد من الأسرى إلى مستشفى الشفاء.
وردا على هذه الادعاءات غير المثبتة، أصدرت حماس، التي نفت مرارا وتكرارا استخدام المستشفى في عمليات عسكرية، بيانا وصفت فيه ادعاءات "إسرائيل" بأنها "قصة مزيفة" لن يصدقها أحد.
جدير بالذكر أنه قبل اعتقال أبو سلمية أبلغ في حديث مع وسائل الإعلام الغربية عن طلب الجيش الصهيوني إخلاء المستشفى وأنه في حال عدم التعاون سيتم اعتقاله بجريمة التعاون مع حماس، وقال أبو سليمة لوكالة فرانس برس إنه تلقى "أمرا" بإخلاء المستشفى في 18 تشرين الثاني/نوفمبر بعد رفض أمر مماثل سابق.
كما أكدت وزارة الصحة بغزة أن الجيش الإسرائيلي لم يعثر على "أي معدات وأسلحة" في مستشفى الشفاء بغزة، وهذه الوزارة بالأساس لا تسمح بوجود أسلحة في المستشفيات التابعة لها.
إن ذريعة الصهاينة لاحتجاز الطواقم الطبية ومهاجمة المستشفيات كأهداف للحرب لم تثر الغضب الدولي فحسب، بل سخر الكثيرون من هذه الادعاءات، على سبيل المثال، كتبت مجلة الأهرام الإلكترونية في مصر: "إنهم (الأطباء) يستخدمون أحدث أنواع الأسلحة مثل السكاكين الجراحية لأهداف عسكرية، لكن أخبرني لماذا قصفوا (الصهاينة) سوق الخضار؟".
إن نظرة إلى الوضع العام للحرب خلال الفترة التي مضت تثبت أن المراكز الطبية والمستشفيات وسيارات الإسعاف كانت متعمدة في قائمة الأهداف العسكرية للجيش الصهيوني، وكانت وزارة الصحة بغزة قد أعلنت في وقت سابق أن 21 مستشفى و47 مركزا صحيا في قطاع غزة خارج الخدمة، ومع استمرار الحصار يجب توقع مصير مماثل للمستشفيات الأخرى بسبب نفاد الوقود وانقطاع التيار الكهربائي.
ومن ناحية أخرى، فإن ارتفاع عدد شهداء الطواقم الطبية في غزة يكشف أيضًا حقيقة الهجمات التي تستهدف الطواقم الطبية، ووفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية، قُتل أكثر من 200 عامل في مجال الرعاية الصحية منذ بداية الحرب.
ويمكن فهم حجم هذه الإحصائية بشكل أفضل عندما نعلم أنه وفقا لمنظمة "التحالف من أجل حماية الصحة في الحرب" غير الربحية، فإنه في 49 حربا وصراعا في عام 2021 بأكمله، قُتل 161 طبيبا فقط، لكن هذا العدد استشهد في حرب غزة في أقل من ستة أسابيع، وقد تجاوز عدد القتلى 200 قتيل.
وفي هذه الفترة القصيرة، قُتل نحو 105 من عمال الإغاثة، معظمهم يعملون مع الأمم المتحدة، وتقول الأمم المتحدة إن الصراع في غزة هو الأسوأ بالنسبة لموظفي الأمم المتحدة في تاريخها.
أحد المبادئ الأساسية للقانون الدولي هو وجوب حماية البنية التحتية المدنية، وهذا ينطبق بشكل خاص على المستشفيات.
في عام 2016، بعد الهجوم الدموي الذي شنه الجيش الأمريكي على مركز صحي في كندور بأفغانستان، والذي أدى إلى مقتل عدد كبير من المدنيين والطواقم الطبية، بالإضافة إلى أمثلة مشابهة لهذا الحدث في اليمن وسوريا، أقر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار رقم 2286 الخاص بحماية المراكز الطبية والصحية.
لكن الكيان الصهيوني، الذي يتجاهل قواعد الحرب الدولية، بأعذار واهية، لا يخجل حتى من الإعلان علناً عن إدراج المستشفيات في قائمة الأهداف العسكرية وقصفها في المستقبل.
ولذلك فإن الإجراء الوقائي الدولي الذي يمكن أن يمنع تكرار هذه القضية ويكون وسيلة فعالة لمحاسبة قادة تل أبيب هو تشكيل لجنة مستقلة ومحايدة لتقصي الحقائق.
تأسست اللجنة الدولية لتقصي الحقائق الإنسانية في عام 1991 واستناداً إلى اتفاقيات جنيف المستندة إلى قواعد الحرب، للتحقيق بشكل مستقل في انتهاكات القانون الإنساني في الحروب، وكما فشلت هذه المؤسسة في محاسبة الحكومة الأمريكية على هجوم قندوز، وحتى المملكة العربية السعودية عن أفعال مماثلة في اليمن، فقد فشلت أيضًا في التحقيق في جرائم "إسرائيل".
وحتى الآن، وبينما لا يزال الصهاينة يقرعون طبول الحرب، فليس من المستغرب أنه مع تشتت الأطباء ونقص المعدات الطبية، لا يرى الكثير منهم أي طريقة أخرى سوى مغادرة غزة.
وفي هذا الصدد، نشرت صحيفة الغارديان الإنجليزية رسالة للدكتور أحمد أبوندا بتاريخ 17 تشرين الثاني/نوفمبر، قال فيها عن حالة مستشفى الشفاء: "الشفاء كان يسمى مستشفى، أما اليوم فهو مجرد مبنى، تشهد آلاف قصص الألم والمأساة داخل أسوارها، مستشفى تحول إلى مبنى بلا كهرباء وماء وأكسجين، أنا جراح أوعية دموية، أنا آسف جدًا لأنني لم أتمكن من علاجكم (المرضى)، سأغادر مستشفى الشفاء، وكانت هذه فرصتنا الأخيرة للخروج، قلبي مليء حزنًا وألمًا، وأحمل رثائي وضعفي إلى باب الله".