الوقت- بات واضحًا وغير قابل للجدل أن العنصرية تجاه العرب اللاجئين والسياح في تركيا ليست حالات عفوية بل تشير إلى حملات مُمنهجة، ويطرح هذا الوضع تساؤلات حول مَن يتحمل المسؤولية الرئيسية عن هذه الحملات، هل الحزب الحاكم أم المعارضة؟ ففي الأثناء، توجهت الاتهامات نحو المعارضة من قِبَل السلطة بالتحريض، بينما تباطأت الحكومة في اتخاذ إجراءات صارمة ضد العنصريين، هذه الانتقادات لم تقتصر على السلطة الحاكمة بل طالت أيضًا رموز العرب الذين انضموا إلى صفوف المعارضة، وبغض النظر عن الإجابة على السؤال الحقيقي، فإن السلطات التركية الرسمية تقود في الوقت الحالي جهودًا واضحة وملموسة لاحتواء ووقف العنصرية المشينة ضد الأجانب.
وتتجلى هذه الجهود من خلال حملات ملحوظة تستهدف القضاء على هذه السلوكيات المشينة، والتي انعكست في مشاهد اعتداءات على سياح عرب ومظاهر أخرى من التمييز العنصري ضد اللاجئين، وتتكرر هذه الجهود بشكل ملحوظ.
مقاطعة سياحيّة لتركيا
يمكن مراقبة تداول حكومة تركيا في التعامل مع مثل هذه الحوادث اللافتة، حيث تم اعتقال الصحفي باطوهان تشولاك، رئيس تحرير موقع "آيكيري" المعروف بانتقاده لوجود اللاجئين السوريين والأجانب في تركيا، هذه الحوادث المؤثرة أثارت استياء العديد من المستخدمين العرب على وسائل التواصل الاجتماعي ودفعت السلطات التركية للتصدي بجدية لهذه المسائل، وأدت إلى حملات مقاطعة للسياحة في تركيا، الحادثة الأولى تعلقت بمقتل سائح مغربي في إسطنبول على يد سائق سيارة أجرة تركي، وأثارت تساؤلات حول سلامة السياح في تركيا وأمانهم.
والحادثة الثانية تعلقت بالاعتداء الجسدي على السائح الكويتي محمد راشد العجمي في طرابزون شمال تركيا، هذا الحادث دفع العديد من الخليجيين إلى تكثيف حملات مقاطعة السياحة في تركيا، ما أسفر عن إلغاء حجوزات سفرهم وأثر سلباً على الصناعة السياحية التركية، حيث أشار مُستشار الرئيس التركي السابق، ياسين أقطاي، إلى أن هذه الحملات تسببت في خسائر تُقدر بالمليارات، وقبل اعتقال الصحفي تشولاك، تم أيضًا اعتقال رؤوف كوسا، مؤسس حركة الدفاع القومية العنصرية في تركيا، هذه الحركة أعلنت بوضوح أنها تستهدف الأجانب في تركيا بدءًا من أكتوبر المقبل ما لم تتخذ الحكومة إجراءات لإنهاء ما وصفته بـ "احتلالهم للبلاد".
وعلى الرغم من اعتقال أبرز المحرضين على العرب، يظل الحزب الحاكم "العدالة والتنمية" مسؤولًا بشكل جزئي عن الزيادة في الاعتداءات العنصرية ضد الأجانب في تركيا، هذه الاعتداءات ازدادت واشتهرت بعد إجراءات الحكومة التي تبعت الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مايو الماضي، وقبل الانتخابات المحلية المقررة في نهاية مارس المقبل، حيث أدت هذه الإجراءات إلى توقيف وترحيل آلاف الأجانب المخالفين لشروط الإقامة، هذا دفع ببعض الأفراد إلى اعتبار أن السلطات الرسمية تدعم العنصرية ضد اللاجئين والسياح.
السلطات تواجه التأثيرات الاقتصاديّة السلبيّة
تبدو السلطات التركية مصممة على التصدي لمسألة العنصرية، وهذا ما يظهر بوضوح هذه المرة من خلال تأثيراتها الاقتصادية السلبية على القطاع السياحي، إلى جانب حملة الاعتقالات، تم نقل تأكيدات من جهات قضائية تركية عن صدور أحكام بالسجن بحق 8 من مديري الحسابات والمواقع التي تُتهم ببث "خطابات الكراهية والعنصرية"، هذه الإجراءات تأتي في إطار تحقيق أطلقته وزارة الداخلية التركية مؤخرًا وأسفرت حتى الآن عن إلقاء القبض على 27 متهمًا.
وبعد مشاركته في الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أدلى الرئيس التركي بتصريحات مهمة، أعرب عن تصميم بلاده على معاقبة مرتكبي ما وصفها بـ "الاعتداءات الدنيئة" على السياح في تركيا، مشيرًا إلى أنه ستتم محاسبتهم على أفعالهم، كما ألمح إلى تأثر بلاده بانتشار ظاهرة العنصرية في أوروبا.
وفي سياق متصل، شهدت الساعات الأخيرة حملة صحفية بارزة بعنوان "نحن جسد واحد"، قام فيها صحفيون ونشطاء أتراك بإطلاق نداء للعالم الإسلامي، داعين إلى التضامن والوحدة، ونبذ الفرقة والعنصرية.
وفي الوقت نفسه، قام نشطاء من دول الخليج ببدء حملات لمقاطعة السياحة في تركيا، ردًا على تصاعد الاعتداءات التي تعرض لها السياح العرب في تلك البلاد، تضمنت هذه الحملات فيديوهات توثق الهجمات الأخيرة على السائح الكويتي في مدينة طرابزون، ما أثر بشكل كبير على القرارات السياحية للمسافرين من الخليج، وانتشرت هذه الحملات بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يثير تساؤلات حول مدى قدرة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية الحالية على استعادة الثقة لدى السياح العرب والخليجيين، وجعل تركيا مكانًا آمنًا لزيارتهم وزيارة عائلاتهم بأمان، وهل تمثل هذه الإجراءات استجابة فعالة للمشكلة أم إن التحركات الحكومية تأتي متأخرة وتعكس مصالح اقتصادية فقط؟
يشير البعض إلى أن السياح العرب والخليجيين يمثلون إنفاقًا مهمًا لاقتصاد تركيا، حيث ينفقون متوسط 4000 دولار مقابل 800 دولار للسائح الأجنبي، ومع ذلك، يظل هؤلاء السياح عرضة لظواهر العنصرية في تركيا، وهذا ما لم يشفع لهم على الرغم من إنفاقهم الكبير ومساهمتهم الاقتصادية، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، انتشرت عدة وسوم هاشتاغات مثل #تركيا_غير_آمنة_للعرب و #مقاطعة_تركيا_واجب_وطني، تعبيرًا عن استياء واستنكار العديد من الأفراد تجاه الوضع الحالي ودعوتهم لمقاطعة تركيا كوجهة سياحية.
خطر كبير على قطاع السياحة التركيّ
يعد اعتماد تركيا على السياحة موضوعًا ذا أهمية كبيرة، حيث اعتمدت البلاد منذ فترة طويلة على جمالها الطبيعي ومواقعها التاريخية ومعالمها الثقافية لجذب ملايين السياح من جميع أنحاء العالم كل عام، ولعبت السياحة دورًا حاسمًا في الاقتصاد التركي، حيث ساهمت بشكل كبير في الناتج المحلي الإجمالي وتوفير فرص العمل للكثيرين، ومع ذلك، فإن هذا الاعتماد الكبير على السياحة يأتي أيضًا مع تحدياته ونقاط ضعفه، ويمكن أن تكون الصناعة حساسة للغاية للعوامل الخارجية مثل عدم الاستقرار السياسي والأزمات الاقتصادية والأحداث العالمية، كما رأينا خلال جائحة كوفيد-19، حيث أثرت القيود المفروضة على السفر وانخفاض السفر الدولي بشدة على قطاع السياحة في تركيا.
ولضمان مستقبل مستدام في المجال السياحي، يجب على المسؤولين الأتراك ضبط حوادث العنصرية لأن المقاطعة العربية لتركيا تعني خطراً كبيراً على مجال السياحة، وخاصة أن تركيا تعتمد بشكل كبير على اقتصادها والأحداث العنصرية تؤثر بشكل كبير على السياحة، ويمكن أن يشمل ذلك مقاطعة الاستثمار في قطاعات أخرى مثل التكنولوجيا والتصنيع والزراعة، وتستطيع تركيا بناء قدر أكبر من المرونة مع الأجانب والحد من المخاطر المرتبطة بالعنصريّة.
في الختام، إن السياحة تظل جزءًا حيويًا من الاقتصاد التركي، فمن الضروري أن تقوم سلطات البلاد بتقليل العنصرية تجاه العرب في تركيا، وهي قضية حساسة تستحق الانتباه والتعامل الجاد، على الرغم من أن تركيا تستقبل ملايين السياح العرب سنويًا وتحتضن مجتمعًا متنوعًا من الأقليات العربية والأجانب، إلا أنها قد شهدت الكثير من الحالات التي أظهرت تصاعدًا في مظاهر العنصرية تجاه هؤلاء الزوار والمقيمين العرب، ومن الضروري مكافحة العنصرية في جميع أشكالها ومظاهرها، سواء كانت عنصرية تجاه العرق أو الديانة أو الثقافة، ويجب على الحكومة التركية والمجتمع المدني العمل معاً لتعزيز التوعية والتعايش الثقافي وتعزيز قيم التسامح والاحترام المتبادل.
إلى جانب ذلك، يجب تعزيز التشريعات وتطبيقها بشكل فعال لمكافحة العنصرية وتوفير وسائل للمتضررين للإبلاغ عن أي حالات تمييز أو عنصرية تعرضوا لها، ويمكن للمجتمع الدولي أيضًا أن يلعب دورًا مهمًا في تشجيع دعم حقوق الإنسان ومكافحة العنصرية في تركيا، ويجب أن تكون مكافحة العنصرية أولوية قومية وإنسانية، حيث يمكن أن تسهم في تعزيز التعايش السلمي والاستقرار في المجتمع وتعزيز العلاقات بين الأعراق والثقافات المختلفة في تركيا.