الوقت- منذ أكثر من 7 عقود تفتخر "الوكالة اليهودية" بدورها في جلب اليهود من كل أنحاء العالم إلى الأراضي المحتلة، لكن الأزمات الداخلية واسعة النطاق، ولا سيما الصراع على السلطة في الكيان الصهيوني وتواصل الاحتجاجات ضد خطة الحكومة لإصلاح النظام القضائي، أدت إلى إبطاء عملية الهجرة إلى الأراضي المحتلة وسرعت الهجرة العكسية، الأمر الذي أثار موجة من القلق بين مسؤولي هذا الكيان.
وفي هذا الصدد، أفادت وسائل إعلام الكيان الصهيوني عن انخفاض كبير في معدل الهجرة إلى الأراضي المحتلة من أمريكا الشمالية، وخاصة بين الشباب، وانخفاض عوامل الجذب، وأعلنت صحيفة يديعوت أحرونوت عن ذلك: "إن خطة الإصلاح القضائي ستدمر المجتمع الإسرائيلي وتؤثر على كل جوانب الحياة وليس فقط داخل الأراضي المحتلة".
وذكرت أحرونوت أن "سبب انخفاض الهجرة هو أنهم يجدون صعوبة في الانسجام مع إسرائيل في هذا الوقت ويقولون إن الوقت الحالي ليس الوقت المناسب للهجرة، فمنذ بداية العام، لم يفد سوى ثلث متوسط عدد المهاجرين الشباب الذين هاجروا إلى إسرائيل خلال العقد الماضي، هاجروا إلى هذه المناطق".
أفادت منظمة Nefesh Ban Nefesh، وهي منظمة غير ربحية تدعم وتشجع الهجرة من الولايات المتحدة وإنجلترا إلى الأراضي المحتلة، بأن هناك حديثاً عن عدم الاستقرار في الأراضي المحتلة، وقد أعلن المزيد من اليهود أنهم لن يهاجروا أبدًا إلى الأراضي المحتلة، وتتنافس "إسرائيل" مع وجهات الهجرة الأخرى، فقد انخفضت الهجرة إلى الأراضي المحتلة ومن المتوقع أن تصل إلى حوالي 3000 مهاجر بنهاية عام 2023، أي أقل بحوالي 10-15% عن السنوات السابقة.
كما أنه حسب المعلومات الرسمية التي نشرتها الوكالة اليهودية، دخل "إسرائيل" في النصف الأول من العام الحالي 29293 مهاجرا، وهو ما يمثل انخفاضا بنسبة 20% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وحسب الوكالة، فإن 78% من المهاجرين الجدد جاؤوا من روسيا.
وحسب تقرير أحرونوت، فإن انخفاض معدل هجرة الشباب إلى الأراضي المحتلة ليس هو القضية الوحيدة المثيرة للقلق، وإضافة إلى ذلك، انخفضت المساعدات المالية للكيان الصهيوني أيضًا. وقال أحد الرعاة، الذي يعرّف عن نفسه بأنه صهيوني كبير، لوسائل الإعلام، إنه نتيجة لهذا الوضع، سيوقف المبالغ التي وعد بدفعها، وسط قلق البعض من الأوضاع الاقتصادية.
وسبق أن حذر بعض المستثمرين والمحللين المقيمين في الأراضي المحتلة من أن اقتصاد الكيان الصهيوني سيواجه على الأرجح تراجعا في تصنيف التنمية، وانخفاضا في حجم الاستثمارات الأجنبية، فضلا عن ضعف أداء قطاع التكنولوجيا بسبب استمرار التوترات الناجمة عن الإصلاحات القضائية المثيرة للجدل.
وأعلنت وسائل إعلام تابعة للكيان الصهيوني في شهر يوليو/تموز الماضي أن وكالة تصنيف التنمية الدولية ذكرت أن الجدل الدائر حول الإصلاحات القضائية للكيان الصهيوني قد يعرض نموه الاقتصادي للخطر، وفي الوقت نفسه، فإن الوضع الاقتصادي له علاقة مباشرة بمعدل الهجرة إلى الأراضي المحتلة لأن التغير في عدد المهاجرين على مرّ السنين يرتبط بالوضع الاقتصادي لـ"إسرائيل" مقارنة بالبلد الأصلي للمهاجرين اليهود.
الهجرة هي شريان الحياة للكيان الصهيوني
ومن الواضح أن الكيان الصهيوني يحتاج إلى السكان اليهود للبقاء على قيد الحياة ومواصلة احتلاله، لأن السلطات المتشددة في هذا الكيان يمكن أن تتبع خطة بناء المستوطنات في الضفة الغربية بحجة زيادة عدد سكان الأراضي المحتلة وبالتالي تهويد القدس. ومن ناحية أخرى، وبسبب الثروة الكبيرة للرأسماليين اليهود، يحاول الكيان الصهيوني تطوير بنيته التحتية الاقتصادية وحل جزء كبير من مشاكله الاقتصادية من خلال جذب رؤوس الأموال الأجنبية، وبالتالي فتح الأراضي المحتلة أمام وجود مهاجرين آخرين، وخاصة من أفريقيا، فهم يبحثون عن حياة مزدهرة، وهذا الإجراء بدوره يحل حاجة الصهاينة إلى العمالة، ومن ناحية أخرى يقلل من حاجة العمالة العربية الفلسطينية التي تعيش في الأراضي المحتلة، ونتيجة لذلك، فإن سياسة تهجير العرب الذين يلعبون دورا مهما في توفير العمالة في مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية، يمكن اتباعها بتكاليف أقل.
في الوقت الحالي، يتكون ما يقرب من 20% من سكان "إسرائيل" من مجموعات دينية، بما في ذلك الحريديم، الذين ليس لديهم حصة في سوق العمل والعملية الإنتاجية لهذا الكيان، وبالتالي فإن عبء العمالة الناقصة لهذا العدد الكبير من السكان يجب أن يتحمله الصهاينة الآخرون، ولهذا السبب، يجب استيعاب المهاجرين الجدد حتى لا يخرج الاقتصاد عن مساره.
يحتاج قادة تل أبيب إلى المزيد من المهاجرين من أجل جذب المزيد من رأس المال، وكلما زاد عدد السكان، كلما تمكنوا من الضغط على الرأسماليين اليهود لاستثمار المزيد في الأراضي المحتلة، حيث إن ضخ المزيد من رأس المال سيفتح أيدي المتطرفين لتنفيذ خطط توسعية في الضفة الغربية.
وفي هذا الصدد، ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أن غالبية سكان المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية، التي تتمتع بأدنى مستوى من الأمن في الأراضي المحتلة، هم من اليهود المهاجرين الأقل ثراء والفقراء، واليهود الأثرياء في مدن كبيرة مثل حيفا وتل أبيب، وبهذا المعنى فإن استمرار البناء الاستيطاني مرتبط بالوضع الاقتصادي.
ويعيش في الأراضي المحتلة نحو 9.600.000 نسمة، منهم 7.800.000 صهيوني، ويحاول زعماء تل أبيب خلخلة التوازن السكاني ضد الفلسطينيين لمصلحة اليهود من خلال جذب المزيد من المهاجرين، وهو الوضع الذي يدفع الصهاينة إلى المزيد من المطالبة بأراضي فلسطين.
ويمكن رؤية مثل هذه المعادلة في المجال العسكري أيضًا، حيث كان توفير القوة البشرية للجيش، باعتباره المكون الرئيسي للقوة العسكرية لأي دولة، هو الشغل الشاغل للقادة الصهاينة، وكانت الهجرة أهم وسيلة لتحقيق هذه الغاية وتلبية حاجة الكيان لاستقطاب القوى البشرية في الجيش، ولهذا الغرض، وضع الجيش الإسرائيلي في السنوات الماضية برنامجًا يسمى برنامج التوظيف غارين لوتام، والذي بموجبه يمكن للمهاجرين اليهود إلى "إسرائيل"، أثناء خدمتهم في الجيش لمدة عامين، الحصول على راتب سنوي جيد إضافة إلى مرافق الرعاية الاجتماعية، وخدمة السكن، ومع ذلك، فإنهم ليسوا على استعداد كبير للبقاء في الأراضي المحتلة، ونصفهم يغادر "إسرائيل" بمجرد انتهاء فترة خدمتهم، والثلث المتبقي يبقى هناك لفترة قصيرة فقط.
وبالنظر إلى هذا القدر من اعتماد الشرايين الحيوية للكيان الصهيوني على فئة الهجرة، أعربت الأوساط السياسية الصهيونية عن قلقها من انخفاض عدد المهاجرين بنسبة 42% في السنوات الأخيرة، بشكل تسبب في أن وزير الهجرة لهذا الكيان سافر إلى فرنسا في أبريل من أجل تعزيز وتشجيع الهجرة اليهودية.
أسباب الهجرة البطيئة
في العقود الأولى من تأسيس الكيان الصهيوني المزيف، فكرت سلطات هذا الكيان في تقديم حوافز لجذب المهاجرين من جميع أنحاء العالم وزيادة عدد سكانهم، حتى يتمكنوا من جذب المزيد من اليهود إلى الأراضي المحتلة، وتوفير فرص العمل.
أدى إعطاء الأرض إلى سفر مئات الآلاف من الأشخاص إلى فلسطين المحتلة، لكن الأدلة تشير إلى أنه في العقدين الأخيرين، لم ترد أخبار عن تلك الحوافز، ولا رغبة لدى اليهود المغتربين في الذهاب إلى أرض الميعاد.
ويعتقد أوري كرمل، رئيس جمعية "Eretz-Ir" التي تشرف على مشروع خلق فرص عمل للمهاجرين والتوظيف في النقب، أن "إسرائيل" مستعدة لاستيعاب عدد كبير من المهاجرين، ولكن بسبب تصاعد التوترات الأمنية والأزمات الداخلية والتغييرات في النظام القضائي جاءت تلك التقديرات محزنة لـ"إسرائيل"، لأنها مستعدة وراغبة في قبول واستيعاب هذا العدد الكبير من المهاجرين، لكن لا يوجد ضمان بأن مستقبلهم سيتم توفيره في "إسرائيل".
هاجر الصهاينة إلى الأراضي المحتلة بهدف الحصول على حياة أفضل، حيث يحظى الأمن والرخاء الاقتصادي بأهمية خاصة بالنسبة لهم، ولكن بعد عقود من تشويق الوكالة اليهودية ليهود العالم حول حياة هانئة في أرض الميعاد، بدأت أزمات مختلفة والمهاجرون يرون قضية صهيون تتفكك أمام أعينهم.
الاتجاه التصاعدي للهجرة العكسية
إن الحدّ من الهجرة إلى الأراضي المحتلة ليس هو الشغل الشاغل الوحيد للصهاينة، بل الأسوأ من ذلك هو الهجرة العكسية من الأراضي المحتلة، التي كانت على منحدر حاد طوال العقد الماضي، وحسب الإحصائيات المعلنة، فإن أكثر من 756 ألف يهودي هاجروا من الأراضي المحتلة بحلول عام 2020 لأسباب مختلفة، بما في ذلك تدهور الوضع الاقتصادي وعدم المساواة والإحباط الناجم عن التسوية الهشة مع الفلسطينيين، فضلاً عن تصاعد التوترات مع الفلسطينيين.
ولم يقتصر الأمر على أن هذه العملية لم تتباطأ فحسب، بل إنها لا تزال في ارتفاع، ووفقا لاستطلاعات الرأي التي أجريت في الأشهر الأخيرة، قال أكثر من 60 في المئة من الصهاينة إنهم يفكرون في الهجرة، وتأتي هذه القضية أكثر استجابة للسياسات المثيرة للجدل التي تنتهجها حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة ورفاقه، والتي أدت إلى تفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية.
وحسب نتائج استطلاع أجرته شبكة "كان" الإسرائيلية، فإن أكثر من 25% من الصهاينة فوق سن 18 عاما يفكرون جديا في الهجرة من الأراضي المحتلة، فيما بدأ 6% طرقا عملية للهجرة بسبب الوضع الحالي، وأثر نفوذ الأحزاب الحريدية والتيار اليميني للإصلاحات الدينية على مفاصل الحكومة وإصلاحات النظام القضائي، وهو ما يعتبره الصهاينة "انقلابا على الديمقراطية ونظام الحكم".
ورغم أن الكيان الصهيوني تمكن من تحطيم الرقم القياسي المسجل في العقدين الماضيين بجذب 70 ألف مهاجر جديد في عام 2022، إلا أن كل شيء انقلب هذا العام بسبب صعود المتشددين في الحكومة، ويرى آدم كيلر المتحدث الرسمي باسم فصيل "السلام الآن" أن "الهجرة العكسية في الماضي كانت لأسباب اجتماعية واقتصادية وارتفاع معدل البطالة وأيضا الظروف المعيشية الصعبة مقارنة بالحياة في بلدان أخرى، أما الآن فقد أصبحت بسبب انعدام آفاق الاستقرار الحكومي في "إسرائيل".
ومع ظهور متطرفين دينيين للسيطرة على الحكم ومحاولة إضعاف السلطة القضائية وأسس الديمقراطية واستبدالها بإجراءات دكتاتورية، اتسعت ظاهرة الهجرة العكسية بين جيل الشباب والأكاديميين، والأشخاص المؤهلين والمفكرين العلميين وأصحاب رؤوس الأموال.
ولا يعد نزوح المهاجرين اليهود من "إسرائيل" قضية جديدة، فمنذ قيام كيان الاحتلال كانت هناك دائما هجرة عكسية، وغادر 10 بالمئة من المهاجرين اليهود الأراضي المحتلة بين عامي 1948-1950، ما دفع سلطات تل أبيب إلى فرض قيود صارمة، وكثيرا ما كان يتم رفض طلب الحصول على تأشيرة خروج لمقدمي الطلبات الإسرائيليين، ولكن الآن بسبب الفجوات السياسية والاجتماعية الواسعة الناجمة عن تصرفات المتطرفين، تكثفت موجة الهجرة العكسية.
إن المخاطر الناجمة عن التوترات الاجتماعية والسياسية بسبب إصلاحات النظام القضائي، والتي سيكون لها تأثير سلبي على اقتصاد وأمن "إسرائيل"، وضعت الصهاينة في وضع سيء، وقد حذروا مرارا وتكرارا كبار المسؤولين في تل أبيب من احتمالية نشوب حرب أهلية وانهيار الكيان في المستقبل القريب، وهم قلقون للغاية من ذلك، وهذه القضية بمثابة عامل طارد، ومن المتوقع أنه مع استمرار هذا الوضع، ستتكثف عملية الهجرة العكسية في المستقبل.