الوقت - جاءت الانتخابات الإسبانية التي أجريت في ظل انقسام حاد تعيشه البلاد بين اليسار واليمين بـ136 مقعدا للحزب الشعبي و122 مقعدا للحزب الاشتراكي، إذ أعلن زعيم حزب الشعب المحافظ المعارض، ألبرتو نونيز فيجو، فوزه في الانتخابات البرلمانية الإسبانية، لكن دون أغلبية واضحة، رغم دعم اليمين المتطرف له.
ولا تزال الأنظار المغربية تراقب ما ستسفر عنه نتائج تصدر الحزب الشعبي اليميني أمام نظيره الاشتراكي، إذ حمل البرنامج الانتخابي لفيجو التراجع عن الكثير من إصلاحات حكومة سانشيز الاشتراكية، وبالتالي قد ترخي نتائج الانتخابات بتداعياتها على مخاوف المغرب من أي احتمالات قد تعيد النظر في السياسة الخارجية والعلاقات بين البلدين، ولا سيما موقف مدريد الداعم لمبادرة المغرب بالحكم الذاتي كحل لحل النزاع في الصحراء الغربية.
العلاقات الهادئة ولكن المشروطة
جمعت المغرب وإسبانيا علاقات ثقافية متجذرة بحكم القرب الجغرافي والتفاعل الذي فرضه على مر التاريخ، وهو نموذج للتعايش والتمازج الثقافي والحضاري وحسن الجوار الذي ينبغي أن يحكم العلاقات الدولية في الوضع الراهن، تعود جذوره إلى التاريخ المشترك للبلدين الصديقين منذ أكثر من عشرة قرون، وتبعاً لذلك كان هناك تأثير مزدوج في الجانبين في مجالات عدة، كالعمارة، وفن الطهي، والفنون الحية، والآداب والعلوم الإنسانية.
ومن جهة أخرى تعتبر إسبانيا أول مستثمر أجنبي في المغرب، ويعتبر المغرب ثالث دولة من حيث الصادرات لإسبانيا.
فالبلدان يرتبطان بشكل وثيق، والعلاقة بينهما يفترض أن تكون نموذجية، وهذا ما كانت عليه إلى أن استقبلت إسبانيا زعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي، بغرض العلاج من فيروس كورونا في شهر مايو/ أيار 2021، ما أدى إلى تصعيد الموقف بين البلدين لمستوى غير مسبوق على المستوى السياسي.
وأصدرت الخارجية المغربية بياناً شديد اللهجة ضد الخطوة الإسبانية قالت فيه: "منذ أن استقبلت إسبانيا على أراضيها زعيم ميليشيات البوليساريو المتهم بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، زاد المسؤولون الإسبان من عدد التصريحات التي تحاول تبرير هذا العمل الخطير والمخالف لروح الشراكة التي تجمع البلدين".
وما لبثت السلطات المغربية أن خففت الإجراءات الأمنية المحيطة بمدينة سبتة التي تقع تحت السيطرة الإسبانية، فتدفق الآلاف إليها خلال ساعات، فقد تمكن نحو عشرة آلاف مغربي، بينهم نساء وأطفال وعائلات بأكملها ونحو 1500 قاصر، من دخول مدينة سبتة ضمن موجة هجرة جماعية غير مسبوقة، جعلت الجيش الإسباني يعيش حالة استنفار من أجل تقديم الدعم اللوجستي الذي طلبته الحكومة المحلية.
ووصفت مدريد حينئذ الموقف المغربي بأنه "ابتزاز واعتداء"، وما لبث أن استدعى المغرب سفيرته في مدريد.
وجاءت زيارة سانشيرز للمغرب في شباط 2023 والمصالحة بين البلدين بعدما أعلنت إسبانيا تأييد خطة الحكم الذاتي التي يقترحها المغرب لحل النزاع حول الصحراء الغربية، باعتبارها "الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف" حول المستعمرة الاسبانية سابقاً، متخلية بذلك عن حيادها التقليدي إزاء هذا النزاع.
وتعهدت حكومتا إسبانيا والمغرب بالعمل على تعزيز العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين البلدين، في إشارة إلى وضع حد لأعوام من الخلافات التي هددت بتقويض الأمن والطاقة، وأعلن سانشيز عن توقيع أكثر من 20 اتفاقا بين الجانبين، بما يشمل خط ائتمان بقيمة 800 مليون يورو لتعزيز الاستثمار في المغرب، قائلاً: تستدعي الحرب في أوكرانيا، والاضطرابات في عدة مناطق بالشمال، مسؤوليتنا المشتركة للدفاع عن نظام عالمي يستند للقواعد.
كما تأمل مدريد أيضا أن يؤدي موقفها الجديد حول الصحراء الغربية إلى تخلي الرباط عن مطالبها باسترجاع جيبي سبتة ومليلية الإسبانيتين شمال المملكة، اللذين يعتبرهما المغاربة مدينتين محتلتين.
ويقترح المغرب منح المنطقة الصحراوية الشاسعة التي يسيطر على نحو 80 بالمئة من مساحتها، حكما ذاتيا تحت سيادته كحل وحيد لإنهاء النزاع، بينما تطالب جبهة بوليساريو المدعومة من الجزائر المجاورة بإجراء استفتاء لتقرير المصير تحت إشراف الأمم المتحدة.
صدى انتخابات إسبانيا في المغرب
ستزدحم أمام فيخو ملفات ثقيلة الوزن وبالغة الحساسية، على رأسها القضايا التي تستأثر باهتمام نخبوي وشعبي، ومكانة مدريد داخل الاتحاد الأوروبي والحفاظ على التوازن في علاقاتها مع البلدان المغاربية، وخاصة المغرب والجزائر، فإضافة إلى تعزيز العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، سيتوجب على حكومة فيخو أن تولي اهتماما كبيرا لملف العلاقات مع دول المغرب العربي.
وقد صرح فيخو أن العلاقات مع المغرب ستكون من أولوياتنا المستقبلية، إذ سنعمل على استمرار العلاقات المحترمة والمفتوحة مع الرباط، لكن هذا التصريح سبقه اعتراض منه على موقف الحكومة الحالية، كما أنه سطر في برنامجه الانتخابي بـ"الدفع نحو علاقة متوازنة مع دول المغرب العربي"، في إشارة منه للمغرب والجزائر، إذ إن الحزب الشعبي الإسباني، وحزب العمال الاشتراكي أكثر الفاعلين السياسيين الإسبان في ما يخص العلاقات الثنائية بين مدريد والرباط.
تصريحات فيخو هيأ بها الناخب الإسباني بأن حزبه سيدعم قرار الحكومة الحالية بخصوص تأييد مقترح الحكم الذاتي في الصحراء، كما صرح بأن المغرب أول وجهة خارجية سيزورها بعد انتخابه رئيساً للحكومة.
وقد تراجعت الهجرة غير النظامية إلى إسبانيا منذ قرار مدريد تأييد موقف الرباط، لذا سيكون من الصعب بالنسبة لفيخو تغيير سياسة مدريد الحالية، فالمغرب لديه وسائل ضغط عديدة، وقد لا يحدث فيخو أي تغيير علني للموقف، لأن المغرب سينظر إلى ذلك على أنه استفزاز، لذا احتل المغرب وعلاقاته مع إسبانيا أحد موضوعات الصدارة في التنافس السياسي الجاري حاليا في إسبانيا.
ويرى المحلل السياسي الإسباني خافيير نونيز أن العلاقات بين المغرب وإسبانيا تشهد مرحلة جديدة من التعاون والشراكة، وذلك في ظل وجود رغبة مشتركة لدى البلدين في تطوير العلاقات الثنائية في مختلف المجالات، مضيفاً إن المغرب وإسبانيا يواجهان العديد من التحديات المشتركة، مثل الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وإنهما يسعيان إلى التعاون من أجل مواجهة هذه التحديات.
فالحزب الشعبي سيحتاج إلى الحصول على دعم الأحزاب الأخرى لتشكيل الحكومة، وهذه الأحزاب لن تدعم الحزب الشعبي إذا لم يتعهد بتحسين العلاقات مع المغرب.
ويرى مراقبون مغاربة، أن المغرب والعلاقات معه تحتل أحد موضوعات الصدارة في التنافس السياسي الجاري حاليا في إسبانيا، بين اليمينيين والاشتراكيين، ذلك أن العلاقات بين مدريد والرباط حاضرة بقوة، ولا سيما في ما يتعلق بقضايا الأمن والهجرة السرية، ومقترح الحكم الذاتي، ومدينتي سبتة ومليلية، واتفاقية الصيد البحري ورسم الحدود البحرية وغيرها.
وأشار الخبير الدولي نبيل الأندلوسي، رئيس المركز المغاربي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية إلى أن العلاقات المغربية الإسبانية من حيث التوجهات الاستراتيجية هي ثابتة وتخضع لمنطق التراكم التاريخي في بلورة المواقف، ومن الصعب على أي حزب يتولى رئاسة الحكومة اتخاذ أي موقف يمكنه المسّ بالمصالح الاستراتيجية الإسبانية.
ويرى الأندلوسي أن الاعتراف بمغربية الصحراء قرار اتخذ من طرف الجانب الإسباني، في سياق هذا التراكم التاريخي الإيجابي، وفي سياق دولي أطّره الاعتراف الأمريكي، والتراجع عنه سيبقى مغامرة مهما كان قائد سفينة الحكومة الإسبانية.
فهل ستتراوح العلاقة المغربية الإسبانية بين اليمين واليسار، أم ستحمل الأحزاب معها القضية المغربية على شكلها المنطقي البراغماتي؟
