الوقت- انتخابات تركيا في 14 مايو/أيار 2023، يترقبها الداخل والخارج، وتتواكب مع مرحلة حاسمة في التاريخ التركي الحديث، وتصادف مرور 100 عام على إنشاء الجمهورية.
عن كثب، يرقب الغرب وأمريكا تحديدًا الانتخابات التركية، حيث تعني الكثير للنخب والمؤسسات الحاكمة، وتترجم ذلك تصريحات ساسة وقادة، وحملات إعلامية لا تتوقف ضد تركيا، والرئيس أردوغان شخصيًا، تزداد حدتها مع كل استحقاق انتخابي، منذ بدأ أردوغان قيادة تركيا نحو استقلالية القرار بعيدًا عن الهيمنة الغربية. حتى العقد الأول من الألفية الثالثة، كان الغرب ينظر إلى أردوغان على أنه نموذج للقيادة الإسلامية الديمقراطية، في دولة علمانية تنتمي للعالم الإسلامي، ومتحالفة مع الغرب، وقد استثمر الغرب والولايات المتحدة الأمريكية التحالف مع تركيا بطريقة ما، للتدليل على أن الحروب التي شُنت ضد دول إسلامية كالعراق وأفغانستان لم تكن ضد الإسلام، ولكنها كانت ضد الإرهاب.
ومع تمكن الرئيس أردوغان، ووضوح مشروعه لجعل تركيا قوة عالمية، أصبح يُنظر إليه على أنه يمثل سلطة غير ديمقراطية، ويوصفُ نظامُ حكمه بالديكتاتوري!. على مدار تاريخ الجمهورية التركية، قبل تولي أردوغان رئاسة الوزراء، كانت الانقلابات العسكرية تمثل العصا الغليظة التي تتكفل بإعادة توجيه تركيا نحو الغرب، كلما همت بالانحراف عن ذلك، ومع فشل محاولة الانقلاب في 2016، ونجاح الرئيس أردوغان في إنهاء وصاية الجيش على الجمهورية، التي استمرت لعقود، أصبحت الانتخابات وصناديق الاقتراع المحدد الوحيد للتغيير في الدولة التركية، ومع تعزيز سلطة الرئيس التركي، بعد التحول إلى النظام الرئاسي، باتت يد الغرب مغلولة، وتهافتت القدرة، وتقلصت الخيارات للتأثير والتغيير في تركيا.
والمتتبع لما تنشره المؤسسات والمراكز البحثية، والصحف الغربية، من تحليلات وتقارير ومقالات، وخاصة بعد فشل المحاولة الانقلابية في 2016 -التي استبطن الغرب تعاطفًا أثناءها وبعد فشلها- ثم بعد تحوّل تركيا إلى النظام الرئاسي، يجد أن غالب ما يُنشر بخصوص تركيا والرئيس أردوغان تجانبه الموضوعية، ويقوم على تمنيات، ويصب في اتجاه واحد، وهو الرغبة في رؤية تركيا دون أردوغان، والمعنيُ هنا ليس أردوغان بشخصه، ولكنه المشروع الذي يحمله أردوغان لمستقبل تركيا ويجعل منها قوة كبرى، وهذا ما يراه الغرب خطرًا على مصالحه، وكل رئيس يحمل مشروعًا كهذا سيكون غير مرغوب فيه لا محالة.
فمن واشنطن بوست والإيكونومست ولوموند، إلى مؤسسة راند ومعهد واشنطن، وغير ذلك من الصحف والمراكز البحثية، في أمريكا وأوربا، يمكن أن نلاحظ أنموذجًا لخطاب مناهض لتركيا، ينطلق من مصالح نخب وحكومات تزعجها إنجازات تركيا، والجميع هدفهم واحد، هو: إزاحة أردوغان.
وكان من الأمثلة الصارخة لرغبة الإطاحة بأردوغان، ذلك التقرير الصادر عن “مؤسسة راند” التابعة للجيش الأمريكي، في عام 2020، بخصوص تركيا، الذي حمل الكثير من الرسائل المبطنة، التي بدت كأنها تحريض على حكم العدالة والتنمية بقيادة الرئيس أردوغان، وتريد الإيقاع أيضًا بين الجيش والحكومة.
وفي السياق نفسه، صدرت تصريحات عديدة لساسة، كان من أبرزها، تصريحات الرئيس الأمريكي “جون بايدن” للنيويورك تايمز، عندما كان مرشحًا للرئاسة، التي كشف فيها عن مواقفه السياسية، حيث تعهد حال فوزه بالعمل على إسقاط أردوغان، ووصفه بأنه “مستبد”، وحث على دعم المعارضة التركية، وقال: “إنه يجب اتخاذ منهج مختلف معه، بأن نوضح أننا ندعم قيادة المعارضة”، كما تعهد بايدن وقتها بالعمل مع حلفاء أمريكا في المنطقة لعزل أردوغان وأفعاله في البحر الأبيض المتوسط، حسب قوله.
واستمرارًا على النهج نفسه، كان مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق “جون بولتون” الذي اعترف بأنه شارك في “التخطيط لانقلابات” في دول عدة، قد افتتح مقالًا له في صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، في يناير/كانون الثاني، بقوله: إن “حلف الناتو يجب أن يوقف عضوية تركيا إذا تلاعب الرئيس التركي أردوغان بالانتخابات المقبلة”، وقد هاجم “بولتون” أردوغان، وأكد أن الفرصة متاحة لإيقافه، ودعا لدعم المعارضة، وفرض رقابة دولية، وتسليط الضوء إعلاميًا على الانتخابات التركية.
لماذا يتمنى الغرب خسارة أردوغان؟
يجمل بوبي جوش، في مقاله الذي كتبه بـ"بلومبرج"، خلال يناير/كانون الثاني الماضي، أسباب رغبة الغرب في الإطاحة بأردوغان، قائلا: "لقد قوض أمن الناتو من خلال الحصول على أنظمة دفاع صاروخي من روسيا، وأحبط التحالف من خلال منع عضوية السويد وفنلندا، وهدد مرارًا بإغراق أوروبا باللاجئين، وفي الأشهر الأخيرة، ألقى بخطاب عدواني بشكل متزايد تجاه اليونان، وبدت علاقات أنقرة مع واشنطن متوترة لدرجة أن كبار المسؤولين الأتراك يتهمون بشكل روتيني الولايات المتحدة بدعم انقلاب ضد أردوغان والتواطؤ مع الجماعات الإرهابية". ومن هنا، يمكن إجمال أسباب رغبة الغرب في رؤية "ظهر أردوغان المغادر"، فيما يلي:
أولا: العلاقات مع روسيا
لكونها أحد أبرز النقاط الساخنة التي تجمع أوروبا مع روسيا جغرافيا، تعاملت أنقرة باستمرار مع موسكو بميزان حساس أساسه الحفاظ على وتيرة مقبولة وثابتة من العلاقات، ومقاومة أي محاولة من موسكو للتمدد بأريحية في الفضاء السوفييتي، الذي بات يشكل ملعبا مهما لأنقرة، ولاسيما مع التوترات التاريخية الكبيرة بين تركيا وروسيا القيصرية.
لكن أردوغان طور هذه المقاربة لتقوم على أسس التعاون البناء مع روسيا كجار ضخم يشكل أحد أبرز القوى العظمى في العالم، وقد أدى الانقلاب الفاشل في تركيا عام 2016 إلى تطوير التعاون بين أردوغان وفلاديمير بوتين، والذي تحدثت تقارير عن دور إيجابي للأخير في إحباط محاولة الانقلاب على الأول.
تجلى هذا التعاون في ميادين إقليمية مهمة، مثل سوريا، وصولا إلى الميدان الدولي الأبرز حاليا، أوكرانيا، حيث صنع أردوغان مقاربته الخاصة للتعامل مع تلك الأزمة، لدرجة أنه حافظ على علاقاته الودودة مع موسكو ورفض الانخراط بجدية في حراك العقوبات الغربية ضدها، وفي الوقت نفسه دعم كييف دبلوماسيا وحتى عسكريا بشكل أشادت به الأخيرة.
لقد كان هذا التوازن الغريب محيرا ومربكا للغرب بشدة، وبقدر ما أثارت هذه الاستراتيجية حنقا غربيا على أردوغان، بقدر ما أجبرت الغرب على مهادنة الرئيس التركي، رغبة في عدم خسارة حليف بقدر وحجم أنقرة داخل الناتو في خضم أخطر نزاع مع روسيا.
وكانت أخطر محطات النزاع الأمريكي التركي بسبب روسيا، عندما اختار أردوغان اقتناء منظومة "إس-400" للدفاع الجوي الروسية، بعد تمنع واشنطن عن منحه منظومات "باتريوت" و"ثاد" لحماية سماء بلاده، ما أشعل غضبا في واشنطن دفعها لطرد تركيا من برنامج تطوير المقاتلة المتطورة "إف-35"، وعرقلة إمداد أنقرة بمقاتلات "إف-16" وتحديثاتها، وهي المقاتلات التي لا تزال تشكل العمود الفقري لسلاح الجو التركي.
ثانيا: التجاذبات داخل حلف الناتو
منذ مجيئه، لم يكن أردوغان ينظر بعين الرضا إلى طريقة التعامل مع تركيا داخل حلف الناتو، والتي كان يرى أنها لا تتناسب ولا تليق مع حجمها بالحلف كثاني أكبر جيش داخله. وكانت أنقرة، بطبيعة الحال، تتلقى العبء الأكبر في مسألة التوتر بين الناتو وروسيا، باعتبارها بوابة بين الحلف وموسكو، بحكم موقعها الجغرافي المجاور للروس، لكن أردوغان كان يرى أن ما يتلقاه في المقابل أقل ما يستحقه.
لقد استمر الرئيس التركي في الضغط على الناتو من أجل تموضع جديد لبلاده داخل الحلف الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة وأبرز القوى الغربية، وكانت انتقاداته للحلف لاذعة، حينما اعتبر أن الناتو ترك تركيا وحيدة أمام تحديات أمنية وعسكرية كبيرة فرضتها الأحداث في محيطها، ولا سيما في خضم توتر العلاقات بين أنقرة وموسكو بسبب سوريا، والتي وصلت إلى حد الاقتراب من صدام عسكري حينما أسقطت تركيا مقاتلة روسية على الحدود التركية السورية عام 2015، وهي الحادثة التي دفعت موسكو للتصعيد ضد أنقرة.
أيضا مثل صمت الناتو على دعم الولايات المتحدة للتنظيمات الكردية في سوريا والعراق، والتي تعتبرها أنقرة أخطر تهديد إرهابي، نقطة أخرى لزيادة التوتر بين أردوغان وقيادة الناتو.
وفي الواقع، كان النهج العدائي الغربي لأردوغان قصير النظر وينبع من سوء تقدير كارثي لمخاطره، لقد أدى إلى جعله أكثر عدوانية تجاه الغرب، كما تسبّب بإفساد بعض التحولات الإيجابية المهمة التي طرأت على العلاقات التركية الغربية في عهده.
ولا يملك الغرب في الوقت الراهن رفاهية مواصلة نزاعات جانبية مكلفة مع شريك رئيسي لا تقتصر أهميته فحسب على صعيد دعم أوكرانيا وموازنة تأثير روسيا في منطقة البحر الأسود وأمن الطاقة للأوروبيين، بل أصبح قوة رئيسية في محيطه الإقليمي، ويعمل منفردا على مواجهة الفراغ الذي أحدثه تراجع التأثير الغربي في بعض المناطق.