الوقت- أعادت عملية إطلاق النار الأخيرة التي نُفذت داخل مستوطنة "النبي يعقوب" في القدس وقُتل فيها 8 مستوطنين على يد الشاب الفلسطيني "خيري علقم"، مساء الجمعة 27 يناير/كانون الثاني 2023، الضوء على الدور المتزايد للعمليات الفردية في منظومة المقاومة ضد الاحتلال. وكما تشير البيانات الصادرة عن جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، الشاباك، شهد عام 2022 زيادة مضطردة في عدد العمليات ضد المستوطنين وجنود الاحتلال بواقع 1933 عملية، أدت إلى مقتل 29 جنديا ومستوطنا إسرائيليا وجرح نحو 128 آخرين، بزيادة واضحة عن العام السابق 2021 الذي شهد 1570 عملية قتل فيها 18 مستوطنا إسرائيليا وأصيب 196 آخرون، وهي زيادة تبدو مرشحة للاستمرار في ظل استمرار جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وآخرها مجزرة جنين التي ارتقى خلالها 9 شهداء على يد الاحتلال قبل يوم واحد فقط من هذه العملية.
سير التحولات في الضفة الغربية
يدفع ذلك للتأمل في التحولات الكبيرة التي تشهدها منظومة المقاومة خلال السنوات الأخيرة. ويمكن القول إن منتصف العام 2014 تحديدا، مثّل نقطة تحوّل بالنسبة لواقع الضفة الغربية، فقبل هذا العام، وفي العام 2011 تحديدا، بلغ مجموع نشاط المقاومة 320 نشاطا، بما فيها المواجهات الشعبية مع الاحتلال، من رمي الحجارة وإشعال الإطارات وقذف الزجاجات الحارقة، إلا أن هذا الرقم ارتفع في العام الذي يليه إلى 578 نشاطا، ثم في العام 2013 إلى 793 نشاطا، هذا التصاعد الملحوظ قفز مرّة واحدة في منتصف العام 2014، ليبلغ 3699 نشاطا مقاوما، منها 16 عملية طعن، و8 عمليات دعس، وقد كانت ذروة التحول في يوليو/تموز بواقع 886 نشاطا مقاوما، ليُطرح سؤال مهم هنا حول الأسباب التي قادت النشاط المقاوم للتصاعد.
ويمكن الحديث هنا عن ثلاثة أحداث في العام 2014 شكّلت مفتاحا للحالة الكفاحية الجارية في القدس والضفة الغربية حتى اللحظة، والتي اتسمت بنمط من العمليات الفردية، والتي لا تتصل بالضرورة بالفصائل الفلسطينية، وإن لم تكن هذه الفصائل غائبة عن المشهد. الحدث الأول، في يونيو/حزيران، هو خلية، تبيّن فيما بعد أنها تتبع لحركة حماس، تأسر ثلاثة مستوطنين في الخليل، ثم تقتلهم. في الأثناء، وبحثا عن المستوطنين، اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي غالبية مدن الضفة الغربية، وهو الأمر الذي ضاعف من النشاط الشعبي المقاوم في مواجهة هذه القوّات، تدحرجت الأحداث وصولا إلى الحدث الثاني المفصلي في مطلع يوليو/تموز، وهو حرق المستوطنين طفلا مقدسيا، وقد عرفت تداعيات الحادثة بـ"هبّة الطفل محمد أبو خضير"، وقد تركّزت هذه الهبّة بالدرجة الأولى في مدينة القدس المحتلة.
بيد أن الحدث المفصلي الأهم كان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ابتداء من يوليو/تموز، وهي الحرب التي سمّتها حركة حماس بـ"معركة العصف المأكول" وسمّتها قوات الاحتلال بـ"الجرف الصامد"، وكانت المعركة الأطول في تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وكشفت فيها المقاومة الفلسطينية عن أداء قتالي غير مسبوق بالنظر إلى إمكاناتها المحدودة، وكونها تعمل في شريط ساحليّ ضيق مكشوف ومحاصر، ومفتقر إلى الظهير الاستراتيجي، وكان من أهم معالم أداء المقاومة الفلسطينية في هذه المعركة قدرتها على أسر عدد من الجنود الإسرائيليين.
حرب غزة.. وظهور العمليات الفردية
جاءت هذه الحرب بعد سبع سنوات -بالضبط- على الانقسام الفلسطيني، وخلال هذه السنوات السبع جرت مياه كثيرة أسفل جسر الضفة الغربية، كان عنوانها "صناعة الفلسطيني الجديد"، حسب تعبير الجنرال الأميركي "كيث دايتون"، الذي أشرف على إعادة بناء المنظومة الأمنية الفلسطينية بعد الانقسام الفلسطيني، ولم تقتصر هذه الرؤية على تجديد الجهاز الأمني الفلسطيني، وإنما استندت إلى نسق أوسع يتضمن السياسات الأمنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتهدف في مآلاتها إلى تحييد الجماهير الفلسطينية في الضفة الغربية عن مهمّتها التاريخية بإغراقها في نمط استهلاكي يتضادّ مع متطلبات مواجهة الاحتلال، وقد احتاج ذلك إلى عملية هندسة اجتماعية واسعة، لم تكن جهود إقصاء حماس عن المجال العام، وتحطيم منابرها، وتجريف محاضنها، إلا معلما من معالمها.
فإضافة إلى سياسات الإغراق في الديون على حساب التنمية الزراعية والصناعية، تمددت الهندسة المجتمعية الجديدة إلى تجريف الحركة الوطنية عموما، وتكريس حركة فتح حزباً للسلطة، وإنهاء مهمتها التحررية، وربطها عضويّا بالسلطة، بما يشلّ قدرتها على قيادة أي فعالية نضالية مؤثّرة، وتأميم المجال العام كله، وإضعاف الحركة الطلابية، ورافق ذلك الدفع نحو إبراز رموز جديدة، كالمغني بدلا من الشهيد والأسير، وتكثيف الاستعراض الاستهلاكي، وتعزيز الفردانية الصرفة، وهكذا، ظلّت هذه العملية، وعلى مدار سبع سنوات تقصي الجماهير الفلسطينية عن مهمتها في مواجهة الاحتلال.
غير أن حرب عام 2014 على قطاع غزة امتلكت القدرة في ذاتها لتكون كسرا فعليّا لعمليات الهندسة المجتمعية سابقة الذكر، ولولا الظروف الإقليمية والدولية المختلفة لكانت هذه المعركة بالنسبة لحماس أكبر مما كانت عليه معركة الكرامة بالنسبة لفتح في العام 1968، وفي أقل الأحوال أعادت هذه المعركة تعريف الجماهير الفلسطينية في الضفة الغربية بحركة حماس، التي ما عادوا يرون نشاطها في محاضنها التقليدية، كما طرحت سؤالا على الأجيال الجديدة التي لم تعايش تجربة انتفاضة الأقصى وما انتهجه الاحتلال فيها من سياسة "كيّ الوعي"، كما لم تتأثر بدعاية الانقسام الفلسطيني، ومن ثم لم تُشكّل حرب عام 2014 حالة إلهام عالية لهم فحسب، الإجابة عليه بخصوص تحديات القدس والمسجد الأقصى والاستيطان.
هبّة القدس
خلية تابعة لحركة حماس في مدينة نابلس تشنّ، في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، هجوما على سيارة للمستوطنين، بعد يومين على هذه العملية، قام الشاب "مهند الحلبي"، القادم من مدينة رام الله، بتنفيذ عملية طعن في القدس المحتلة أدّت إلى مقتل ثلاثة مستوطنين ثم استشهاده، لتكون هذه العملية فاتحة ما عُرف لاحقا بـ"هبّة القدس"، ولتكون "هبّة القدس" المحطة الأهم حينها في الحالة الكفاحية المفتوحة منذ منتصف العام 2014. وهذه الهبّة، إضافة إلى اتسامها بالمواجهات الشعبية، اتسمت كذلك بكثافة العمليات الفردية، التي لم تتوقف في الأعوام التالية، ففي عام 2016، نُفذت 10 عمليات دعس و50 عملية طعن ناجحة من أصل 4785 نشاطا مقاوما، وهكذا استمرت هذه الحالة الكفاحية بأنماط متعددة، وفي محطات متنوعة ظلّت العمليات الفردية فيها معلما بارزا.
خلال السنوات التالية، استمرت ظاهرة المقاومة الفردية في التصاعد، وصولا إلى عام 2021 الذي اعتُبر بدوره نقطة تحوُّل مهمة، بعد أن دفعت اعتداءات المستوطنين وهجماتهم على المسجد الأقصى وتوالي حملات الاعتقال والتصفية في صفوف الشباب الفلسطيني إلى تعزيز النشاط المقاوم. وحسب الإحصاءات الواردة في التقرير السنوي للمكتب الإعلامي التابع لحركة حماس في الضفة، شهدت الضفة الغربية والقدس عام 2021 10,850 عملا مسلحا، من بينها 441 عملية مؤثرة، وهو أربعة أضعاف عدد العمليات المؤثرة التي شهدها عام 2020.
نظرة في السمات الملحمية
على مدار تاريخ الكفاح الفلسطيني كانت المبادرات الفردية حاضرة دوما، وحتى الأنماط التي غلبت على العمليات الفردية في السنوات الأخيرة هي مألوفة فلسطينيّا، في طول محطاته الكفاحية، فقبل الانتفاضة الأولى نفّذ "خالد الجعيدي"، من حركة الجهاد الإسلامي، عمليات طعن ناجحة أسهمت في بلورة الأحداث نحو تلك الانتفاضة، وفي الانتفاضة الأولى عُرف عامر أبو سرحان، من حركة حماس، بـ"مفجر ثورة السكاكين"، وفي مطلع الانتفاضة الثانية قام "خليل أبو علبة"، وهو لا ينتمي لأي تنظيم فلسطيني حينها، بتنفيذ عملية دعس أدّت إلى مقتل 8 إسرائيليين، إلا أن الفارق الأهم في العمليات الفردية الأخيرة تمثّل في كونها لا تأتي من سياق تغلب عليه الفاعلية التنظيمية في الضفة الغربية، فالدوافع الفردية خارج السياقات التنظيمية هي الغالبة في هذه المرحلة.
لا يعني ذلك الغياب التنظيمي التام، فقد سبقت الإشارة إلى العمليات المنظمة التي وقفت خلفها حركة حماس وافتتحت بها أحداث عامَي 2014 و2015، كما ظهر عدد من مقاتلي الحركة الذين طاردتهم قوات الاحتلال لوقت وجيز، مثل الشهيد "محمد الفقيه" الذي استشهد في عام 2016، والشهيد "أحمد نصر جرار" الذي استشهد في مطلع عام 2018، والشهيد "أشرف نعالوة" الذي نفّذ عمليته في أكتوبر/تشرين الأول 2018، واستشهد في ديسمبر/كانون الأول 2018، والأخوين الشهيد "صالح البرغوثي" و"عاصم البرغوثي" منفذي عمليتين في شهر ديسمبر/كانون الأول 2018.