الوقت- خلف الكواليس وما قبل رفع الستار تجري المفاوضات والأمور بين قصر الإليزيه في باريس والقصر الملكي بالرباط للاتفاق على أدق تفاصيل الزيارة الرسمية المرتقبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب .
ولم يمر تصريح الرئيس الفرنسي حول عزمه زيارة المغرب، من دون انتقادات في الصحافة والمجالس الخاصة ومواقع التواصل. تعليقات انتقدت الأسلوب الذي تعامل به الرئيس مع المسألة، ولا سيما أن العلاقات بين فرنسا والمغرب تشهد منذ مدة تأزما وتوترا كبيرين. بل أكثر من ذلك، فحسب المتتبعين، فإن ماكرون لم يكلف نفسه عناء التواصل مع العاهل المغربي الذي كان وقتها على مقربة منه، مقيما بالأراضي الفرنسية.
كان جليا أن استياء ماكرون تجاه المغرب غير خفي، وخصوصا بعد توجيه باريس الاتهام إلى الرباط بكونها وراء عملية تجسس كبرى عبر اختراق هواتف مسؤولين فرنسيين سامين آخرين، في مقدمتهم الرئيس ماكرون نفسه، وذلك بواسطة تطبيق برنامج التجسس الإسرائيلي "بيغاسوس".
لذلك لم تتحقق الرحلة الماكرونية إلى الديار المغربية، كما صرح هو وتمنى في الوقت الذي حدده (أكتوبر 2022)، كما لم يعلق على تصريحه ذاك أي مصدر رسمي مغربي أو فرنسي وثيق.
وحسب ما تناولته العديد من وسائل الإعلام إنه في الصيف الأخير، وبعد زيارته إلى الجزائر، التقى الرئيس إيمانويل ماكرون على هامش مهرجان موسيقي بفرنسا، بمجموعة من الشباب ضمنهم مغاربة، وأمام كاميرات الهاتف التي أشهروها في وجهه تلقى سؤال واحد منهم:
- السيد الرئيس.. متى ستزور المغرب؟
لم تظهر على السيد ماكرون أي مفاجأة بالسؤال المباغت، لذلك لم يفكر كثيرا حين أجاب مؤكدا:
- في أكتوبر المقبل.. في نهاية أكتوبر سأزور المملكة...
ربما كانت إجابة سريعة ومرتجلة من الرئيس للتخلص بلباقة، لكنها كشفت عما يساور ماكرون ويدور في رأسه من أفكار بصدد تنفيذ سعيه نحو تحقيق مصالحه فماكرون يحاول اللعب على حبلين في علاقاته مع الجزائر والمغرب حيث يواجه الرئيس الفرنسي معضلة حادة في شمال إفريقيا، اذ يجد نفسه بين خياري الإذعان لمطالب المغرب بالسيادة على الصحراء المتنازع عليها مع جبهة البوليساريو، وعدم المساومة على تصميمه الكبير للمصالحة مع الجزائر.
وتوقعت تقارير إعلامية فرنسية، أن يكون عام 2023 دقيقًا بالنسبة للرئيس الفرنسي، في علاقاته مع شمال أفريقيا، حيث سيتعين عليه إظهار توازن دقيق بين المغرب والجزائر.
ويواجه الاليزيه سؤالا محوريا في سياسته الخارجية تجاه المنطقة المغاربية، في ما يتعلق بشريكيه الجارين المتخاصمين، الجزائر والمغرب، وهو “كيف يرضي أحدهما دون تنفير الآخر”، ففي السابق، كان التقليد أن فرنسا كانت إلى حد ما مؤيدة للمغرب، وأن رابطها مع الجزائر مضطرب بشكل لا يمكن إصلاحه، على الرغم من الحفاظ عليه، مع أن كلاً منهما يتعايش أو يتكيف مع هذا الإرث من التاريخ.
والسؤال هنا قد يحضر حول ماذا يجمع ويفرق بين الزيارة الأولى التي قام بها ماكرون في شهر أغسطس من هذا العام إلى الجزائر، التي صادفت في الذكرى الستين لإعلان استقلال الجزائر عام 1962، واجتماعه خلالها بالرئيس عبد المجيد تبون والقادة الجزائريين، والزيارة المرتقبة في مستهل العام المقبل (يناير 2023) إلى المغرب، ولقائه بالملك محمد السادس والمسؤولين الحكوميين في الرباط وقبل زيارته إلى المغرب.. وما هي القضايا التي يواجهها ماكرون؟
بداية لا بد من استذكار أنه قامت وزيرة الشؤون الخارجية الفرنسية ، كاثرين كولونا، بزيارة إلى الرباط منتصف كانون الأول (ديسمبر) 2022 وأعلن حينها رفع القيود المفروضة على التأشيرات في أيلول (سبتمبر) 2021، ردا على عدم رغبة السلطات القنصلية المغربية في إعادة قبول المهاجرين غير الشرعيين المطرودين من الأراضي الفرنسية.
كما تم إغلاق “أزمة التأشيرات” هذه مع الجزائر وتونس اللتين تعرضتا للعقوبة ذاتها للأسباب نفسها.
أما من ناحية الزيارة الجزائرية لماكرون، فإنها أتت حينها ضمن توتر عميق مع الرباط، وخلفت قلقا مغربيا بصدد تخلي فرنسا عن شراكتها التقليدية مع المغرب لفائدة الجزائر، التي لديها الطاقة المبحوث عنها أكثر في زمن الأزمة الروسية – الأوكرانية، بالرغم من كون ماكرون سارع إلى نفي أن يكون موضوع الغاز بين مواضيع مباحثاته في الجزائر، (ومن يصدق كذب ماكرون!)
ولذلك شرعت منابر إعلامية في المغرب، بعضها معروف بقربه من السلطات، في مهاجمة وانتقاد السياسة الفرنسية "الخاطئة" تجاه قضايا المنطقة المغاربية، ليتم التصعيد نحو انتقاد استمرار اعتماد تعليم اللغة الفرنسية في المغرب، بدل اعتماد اللغة الانجليزية التي هي "لغة العلم والتطور والحداثة الحقيقية".
أما الآن يرى بعض المحللين أنه قد جاء وقت استرضاء الرباط التي يبدو أنه لن تقنعها الزيادة في عدد التأشيرات لاستقبال المواطنين المغاربة في فرنسا، أكثر مما يعنيها الاعتراف بالسيادة المغربية على الأقاليم الصحراوية، ونبذ الغموض عن الموقف الفرنسي إزاء نزاع الصحراء الغربية. الموقف الذي يعد أبرز الأسباب المباشرة وراء الأزمة بين المغرب وفرنسا، فالدولة الفرنسية لا يغيب عنها الإدراك بأن القضية الوطنية الأولى لدى المغاربة هي قضية الصحراء الغربية.
وحسب صحيفة “لوموند” الفرنسية، فإن الزيارة المقررة لماكرون إلى الرباط، التي أُعلن عنها في “الربع الأول” دون مزيد من التفاصيل، ستعطي مؤشرا قيما على إعادة التقويم التي قررها الإليزيه.
وشددت الصحيفة، في تقرير نشرته على أن هذه الرحلة متوقعة للغاية حيث من المفترض أن تنهي التسلسل الجليدي في العلاقة الفرنسية المغربية.
وأشارت الصحيفة الى رغبة المغرب في انتزاع اعتراف من فرنسا بسيادته على الصحراء، كخطوة مماثلة للتي اتخذها في نهاية عام 2020 الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في نهاية فترة ولايته، أو على الأقل، أن تذهب باريس إلى أبعد من مجرد الترويج لخطة الحكم الذاتي المغربية.
قد تؤدي هذه الزيارة- إذا ما تمت- حسب محللين إلى تهدئة التوتر بين فرنسا والمغرب، لكن ما يشغل بال إيمانويل ماكرون هو مدى إمكانية نجاحه في ضرب جمع من العصافير بحجرة واحدة:
من حيث تحقيق المصالحة التاريخية مع الجزائر، وإعادة إرساء وتمتين أسس الصداقة الاستراتيجية الفرنسية - المغربية.
معادلة جد معقدة، وحلولها غير مؤكدة...
إيمانويل ماكرون يقر أيضا بأنها صعبة، لكنه في الآن ذاته يراها في متناول اليد...
- كيف؟
هو نفسه لا يملك الجواب الصادق! لكنه من أنصار "النفاق السياسي لتحصيل المصالح من باب أنه لا يوجد شيء في السياسة مستحيلا".
يذكر أنه كانت المشكلة أقل حدة في عهد الرئيسين الفرنسيين السابقين، فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزي، عندما لم يصل التوتر بين الشقيقين المغاربيين إلى هذه المرحلة الحرجة ، وبالتالي لم تخضع باريس. لمثل هذا الاختبار في علاقتها بالدولتين.
نهايةً أصبح من الواضح أنه على الرغم من سعي ماكرون عن كثب للحفاظ على مكانة فرنسا في شمال إفريقيا أو على الأقل تقليل خسائرها الاستراتيجية، تبدو فرنسا تحت وطأة مزيد من الضغوط، وقد تحتاج إلى معجزة للحفاظ على لعبة التوازن المعقدة في علاقاتها مع الرباط والجزائر.
فالرئيس ماكرون يدرك أن علاقات بلاده الوثيقة تاريخيا مع المغرب تبدو قابلة للاهتزاز في أي وقت تحت وطأة الخلافات حول ملفات حسّاسة هي أشبه بقنابل موقوتة قابلة للانفجار والصيغة الفرنسية الممثلة في تأييد خطة الحكم الذاتي، التي كانت رائدة وقتها باتت الرباط اليوم ترى أنها غير كافية، بل عفا عليها الزمن، بالنظر إلى الموقف الجديد لواشنطن أو التغيير في موقف مدريد، يرى ذات المصير.
والتحدي الذي يواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أثناء زيارته المرتقبة، هو ما إذا كان سيقدم تنازلًا “اصطلاحيا” عن الصحراء الغربية !