الوقت - لقد أجبرت التغيرات والتطورات العالمية بعد حرب أوكرانيا، والتي تركت آثارًا هائلةً في المجالين الاقتصادي والعسكري، العديد من الحكومات على مراجعة سياساتها لترتيب التفاعلات مع الجهات الفاعلة الدولية.
المشيخات العربية في الخليج الفارسي، والتي عدلت علاقاتها منذ الحرب العالمية الثانية على أساس التعاون وتنفيذ السياسات الأمريكية والغربية في المنطقة، في الأشهر الأخيرة ومع تقييم جديد للتطورات العالمية، وضعوا البصيرة على جدول أعمالهم حتى لا يُداسوا في لعبة الكبار.
وفي هذا الصدد، عقد ممثلو دول مجلس التعاون اجتماعاً مشتركاً مع ممثلي الصين، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
مساعد وزير الخارجية القطري للشؤون الإقليمية محمد بن عبد العزيز بن صالح الخليفي، والذي حضر الاجتماع ممثلاً عن الدوحة، قال إن الاجتماع المشترك مهم للغاية من أجل توسيع العلاقات وتعزيز الصداقة بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون والصين في مختلف المجالات.
وأوضح الخليفي أن هذا اللقاء يتيح فرصةً لتبادل الآراء للوصول إلى منهج مشترك لتحقيق الأهداف. وأضاف مساعد وزير الخارجية القطري، إن بلاده ترغب في تعزيز وتوسيع هذه العلاقات في مختلف المجالات، وتدعم الجهود في هذا المجال. كما أكد على أهمية تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون والصين.
العرب يسعون لإيجاد راعٍ قوي
يمكن دراسة توجه الدول العربية نحو الصين في الوقت الحاضر من عدة أبعاد. فعلى الرغم من أن المسؤولين في واشنطن يتوقعون بقاء الدول العربية في معسكر الغرب حتى يتمكنوا من الاستمرار في دفع سياساتهم الإقليمية بمساعدة هذه المشيخات، إلا أن القادة العرب أظهروا في الأشهر الأخيرة أنهم لم يعودوا يستمعون إلى أسيادهم الغربيين، ولا يطيعون مطالبهم.
وقد أثبت موقف وأفعال الولايات المتحدة في حرب أوكرانيا، حقيقة أن هذه القوة العظمى المزيفة لم تعد تمتلك قوة الماضي، ولا يمكنها دعم حلفائها في أركان العالم البعيدة.
كما أن العرب أيضًا يدركون جيداً ضعف أمريكا وتراجعها في الساحة العالمية، ولهذا السبب استجابت سلطات السعودية وأبو ظبي بشكل سلبي لمطلب أمريكا بزيادة إنتاج النفط بعد الأزمة الأوكرانية، والذي كان يهدف إلى ضبط الأسعار واستقرارها في الأسواق العالمية، وتوافقت في هذا الملف مع السياسات الروسية.
المشيخات العربية، التي عهدت ضمان أمنها إلى الولايات المتحدة، وبدعم من هذا البلد كانت تمضي قدماً بخططها الطموحة في غرب آسيا، توصلت الآن إلى استنتاج مفاده بأنها لا تستطيع الوثوق بواشنطن. ولذلك، فهم يبحثون عن داعم قوي في العالم يستطيع دعم العرب.
وفقًا لتقديرات المنظمات الدولية، ستصبح الصين أول قطب اقتصادي في العالم بحلول عام 2030 بعد تجاوز الولايات المتحدة، ولهذا الغرض، تحاول دول مجلس التعاون أيضًا الاستفادة القصوى من القوة المتزايدة للصين في المجال الاقتصادي.
لذلك، فإن لقاء العرب مع ممثل الصين في قلب نيويورك يظهر تراجع نفوذ واشنطن في الخليج الفارسي، وسببه تغيرات ملموسة في الساحة العالمية. کما أن رغبة المشيخات العربية في التفاعل مع الصين تعتبر أيضاً نوعاً من الخروج من معسکر أمريكا، التي لا تربطها علاقات جيدة مع حلفائها العرب هذه الأيام.
إن الدول الخليجية التي لا تعرف شيئاً عن الديمقراطية، ولا نجد فيها رموز ومظاهر الديمقراطية مطلقاً ولا تتمتع حتى بالشرعية بين شعوبها، من أجل البقاء والحفاظ على عرشها، يتعين عليها اللجوء إلى قوى عبر إقليمية لضمان أمنها. وبالنظر إلی انهيار الهيمنة الأمريكية، فقد أصبحت الجهات الفاعلة الجديدة مثل الصين مهمةً.
الصين أيضًا، وبسبب التوترات مع واشنطن، تحاول في الأشهر الأخيرة الدخول بقوة في مناطق تتمتع فيها منافستها بنفوذ واسع، لتكون قادرةً على تعزيز مكانتها.
تربط الدول العربية في المنطقة علاقات طيبة مع الصين، ويقدر حجم تجارة هذه الدول مع بكين بأكثر من 250 مليار دولار سنوياً، وهذا الرقم يتزايد كل عام.
السعودية نفسها، التي كانت تحت راية أمريكا منذ عدة عقود، فإن معظم تجارتها الخارجية مع الصينيين وهذا يشير إلى أن العرب يدركون جيدًا مكانة بكين في المعادلة العالمية.
وبالنظر إلى أن الصين قامت أيضًا باستثمارات كبيرة في موارد الطاقة والبنية التحتية للدول العربية، من أجل التمكن من استخدام هذه الموارد الغنية في اقتصادها المتنامي، فقد عزز هذا الموضوع التفاعلات بين الجانبين بشكل أكبر.
كما راهنت الصين لتنفيذ خطة "حزام واحد، طريق واحد" على الدول الخليجية بشکل خاص، وهذه الدول جزء من مشروع بكين الكبير لتحقيق تطلعاتها العالمية.
وبما أن الشرق الأوسط هو قلب هذا الممر العظيم، فقد توجهت السلطات الصينية إلی القوى المؤثرة في المنطقة، ووقعت عقودًا طويلة الأمد مع إيران والسعودية والإمارات لتحقيق هذا المشروع الاقتصادي الكلي.
العلاقات الأمنية العربية مع الصين
رغم أن العرب يتفاعلون حاليًا مع الصين من منظور اقتصادي فقط، ولكن بالابتعاد عن السياسات الأمريكية، فليس بعيدًا عن التوقع أن يقيموا علاقات أمنية وعسكرية مع هذا البلد أيضًا.
حيث كان من المفترض أن تنتج السعودية صواريخ باليستية في أراضيها العام الماضي بناءً على العقود السرية التي أبرمتها مع الصين، لكن خبر هذا الاتفاق تسرب في وسائل الإعلام، ورد الفعل الحاد اللاحق لمسؤولي البيت الأبيض دفع السعوديين إلى وقف برنامج التعاون العسكري مع بكين في الوقت الحالي. لكن ظروف العالم تغيرت إلى حد كبير في العام الماضي، وأمريكا ليست في وضع يمكنها من اتخاذ قرارات للزعماء العرب.
بالتزامن مع النمو الاقتصادي، حققت الصين تقدمًا مذهلاً في المجال العسكري أيضًا، والآن لديها أكبر ميزانية عسكرية في العالم بعد الولايات المتحدة.
إن إنتاج الأسلحة الصينية الحديثة، التي تساوي النوع الأمريكي، جذاب للغاية بالنسبة للمشيخات العربية، وفرصة جيدة لتنويع أسواق أسلحتهم. کما يعتبر وجود جهات فاعلة متعددة في الشؤون الأمنية للدول العربية، ميزةً للحكام العرب للبقاء، لأنها هذه الجهات يمكنها التسرع في مساعدتهم في أوقات الأزمات.
من ناحية أخرى، فإن وجود بعض الدول العربية كشركاء نقاش في منظمة شنغهاي للتعاون، والذي تمّ مؤخرًا بدعوة من الصين، يظهر أن بکين تحاول جلب العرب إلى معسكرها، وإشراکها في المنظمات الإقليمية التي تعتمد على الصين، وهي خطوة يتم تنفيذها بهدف مواجهة المؤسسات الاقتصادية والأمنية التي بنتها أمريكا في العقود الأخيرة.
على صعيد آخر، فإن آفاق العلاقات الدولية للصين، التي تقوم أسسها على السلم وتجنب استخدام القوة الصلبة وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، تمثل فرصةً جيدةً لدول غرب آسيا، لتزيد من خلال التعاون مع هذا العملاق الناشئ التقارب في المنطقة التي دمرتها عقود من التدخلات الأمريكية، حتى يسود الأمن في الخليج الفارسي.
نذکر في الختام أنه مع صعود وسقوط القوى العظمى، تفقد التحالفات الإقليمية والعالمية القائمة زخمها، ويحل محلها النظام والتعاون الجديد.
في فترة ما، كانت الولايات المتحدة وبريطانيا الشركاء الاستراتيجيين للمشيخات العربية، ولكن الآن تغيرت الظروف الدولية وتسعى قوى مثل الصين بقدراتها في المجالين الاقتصادي والعسكري إلى تصميم نظام جديد في العالم، وهو ما يعتبر تحدياً كبيراً لهيمنة الولايات المتحدة المتراجعة.
وعلى الرغم من أن واشنطن تحاول إبعاد الدول العربية في المنطقة عن الجبهة الروسية-الصينية، إلا أن حكام مجلس التعاون، ومن خلال التوجه إلى الصين، يريدون خلق التوازن في علاقاتهم مع الغرب، حتى يتمكنوا على الأقل من الاعتماد على إحدى هاتين القوتين العظميين في أوقات الأزمات.