الوقت- قبل ثمانين عامًا، كانت قوات "الهاغاناه" الإرهابية شبه العسكرية، برفقة القوات البريطانية التي كانت مسؤولة عن فلسطين آنذاك، بمهاجمة قرية ما وكانت الأنباء المروعة تصل إلى القرى المجاورة وبعد يومين كانت تلك القرى تقوم بإجلاء السكان؛ لكن القصة الآن مختلفة كثيرا. لقد جعل عالم الإعلام ووسائل الإعلام الحديثة الأمور مختلفة للغاية بالنسبة للناجين وحتى جنود المجموعات المتطرفة والعنصرية والإرهابية الذين هم اليوم قادة نظام الفصل العنصري في إسرائيل. ومع انتشار الإعلام، لم تعد عمليات القتل الغريبة للصهاينة مجرد متعة. وحسب العديد من المحللين، إذا رأينا هدير انتفاضة استمرت خمس سنوات من 2000 إلى 2005، فذلك بسبب بث صور استشهاد مؤلم للشهيد "محمد الدرة" إلى جانب والده. لكن المشكلة لا تكمن فقط في دور الإعلام في فضح جرائم العدو الصهيوني مثل اغتيال السيدة "شيرين أبو عقلة"، بل تكمن أيضًا في أن الإعلام تسبب في خسارة الكيان الصهيوني للعديد من المعارك اليوم، وإليكم بعضًا منها:
سيف القدس ومعركة حماس الإعلامية
من أهم جوانب حرب سيف القدس التي وقعت العام الماضي، النشاط الإعلامي في داخل الكيان الصهيوني وفلسطين. وبادئ ذي بدء، ينبغي التنويه بدور موظفي المسجد الأقصى في أحداث 28 رمضان هذا العام، حيث كان نشاطهم الإعلامي المكثف منذ الأيام الماضية والبث المباشر لرواد مواقع التواصل الاجتماعي وأخيراً انتشار أنباء انسحاب جنود الكيان الصهيوني، تعتبر من أهم الأحداث الإعلامية في الآونة الأخيرة، وذلك لأن هذا الحدث تم نشره على مستوى عالمي، دون حضور وسائل الإعلام الرسمية ساحة المسجد الاقصى. وعلى الجانب الآخر من القصة، حظيت صور الفلسطينيين وهم يتحدثون مع المحتلين في حي الشيخ جراح، باهتمام كبير. وخلال الحرب أيضًا، نفذ الإعلام الفلسطيني ولأول مرة تفاعلًا جديدًا مع وسائل الإعلام المختلفة يشبه حروب "حزب الله" النفسية مع العدو الصهيوني. وكان الإعلان عن موعد إطلاق الصواريخ وعددها وموقعها، والذي من المقرر أن ينطلق بعد ساعة أخرى، من مبادرات مقاومة غزة، وكان له أثر نفسي كبير في قلوب القادة الصهاينة.
ولكن على الجانب الآخر من القصة، ربط الإعلام الصهيوني، منذ بداية التوترات في المسجد الأقصى، الموضوع بالانتخابات والتوترات المتعلقة بالمأزق السياسي بين خصوم "نتنياهو وبينه". حيث كانوا يعتقدون أن هذه التوترات واستمرار تصرفات "نتنياهو"، كانت لتعطيل جهود خصومه لتشكيل ائتلاف للفوز بمقعد رئاسة الوزراء. ولقد أثرت هذه الاعمال في استمرار الحرب وحتى في نهايتها. وقد أدى فشل الكيان الصهيوني في الحرب واغتيال قادة حماس إلى زيادة الانتقادات. لكن من ناحية أخرى، سلطت حماس تركيزها على النشاط الإعلامي، حيث نشرت صوراً لحضور قادة حماس في الاحتفالات، ونشرت أيضا صور إعادة الإعمار، وذلك من أجل إعادة البناء الذهني لـ "كسب الحرب".
خسر الكيان الصهيوني حرب اليومين في الإعلام
بعد فوزها في المعركة العسكرية التي استمرت يومين عام 2018، هزمت المقاومة الفلسطينية أيضًا النظام الصهيوني في المعركة الإعلامية، بل يمكن القول إنه لو استمرت المعركة على مدى يومين آخرين لكانت المقاومة قد انتصرت في المعركة الإعلامية انتصارا كبيرا. ويمكن رؤية بداية المعركة الإعلامية في نشر صور لبعض الجنود الصهاينة والمرتزقة في وسائل الإعلام الفلسطينية. حيث اندلعت الحرب الإعلامية بعد أن نشرت المقاومة الفلسطينية ووكالات الأنباء التابعة لها صوراً لأعضاء من الفريق الصهيوني وزملائهم المرتزقة الذين ساعدوا في تنفيذ عملية الكرامة في خان يونس، ودعت الجمهور الفلسطيني إلى تقديم أي معلومات عن أصحاب الكتيبة الصهيونية وذلك من أحل نقل هذه الصور إلى السلطات المختصة. ورداً على المقاومة الفلسطينية، دعت هيئة الرقابة العسكرية التابعة للكيان الصهيوني وسائل الإعلام والناشطين الإعلاميين وجميع المستوطنين الصهاينة إلى الامتناع عن إعادة نشر هذه الصور التي نشرتها كتائب القسام على مواقع التواصل الاجتماعي، بدلاً من أجهزة الأمن الفلسطينية، التي ثبت أنهم كانوا قادرين في الماضي على تعقب هؤلاء الأشخاص والحصول على المعلومات اللازمة عنهم من أجل إرسال برامج ضارة واختراق الهواتف المحمولة للجيش الصهيوني.
وفي مذكرة للمونيتور، قال المحلل الصهيوني "بن كاسبت"، إن "نشر صور هذه القوات هو مأساة كبيرة للوحدة السرية التابعة للنظام الصهيوني، والتي تنشط في دول أجنبية، والآن يمكن القول إن طريقة عمل هذه الوحدة هي مفتوح للجميع. وأنا أتوقع أن يضطر الكيان الصهيوني إلى إجراء تغييرات استراتيجية في طريقة عمل وحداته السرية في الخارج، والتي تنشط في جمع المعلومات وتنفيذ بعض العمليات السرية." هذه الخطوة من قبل إعلام حماس جعلت قوة المخابرات التابعة لقوات القسام ومقاومة غزة أكثر وضوحا ووسيطة بعد فشل عملية تسلل الكوماندوز الصهاينة إلى غزة. حيث تدرك حماس جيداً أن الكشف عن سلطتها الاستخبارية وقوتها للرأي العام في غزة مهم الآن ويمكن أن يشعل الجو الاجتماعي في الأراضي المحتلة.
مسدسات العدو الصهيوني في أيدي اسماعيل هنية
عمل إعلامي ورمزي آخر لحركة حماس بعد حرب اليومين كان عرض المسدسات المتبقية من الكوماندوز الصهيوني في خان يونس. حيث قدم قائد كتيبة الشرقية من كتائب الشهيد عز الدين القسام إحدى المسدسات التي حصل عليها مقاتلو المقاومة من عناصر الوحدة الخاصة للجيش الصهيوني شرقي خان يونس إلى إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس. هذه الخطوة، إضافة إلى غرس الإحساس بالنصر والاعتزاز في نفوس سكان غزة، جعلت رواية حماس ووسائل الإعلام الموالية للمقاومة عن قصة خان يونس ومفاجأة مغاوير تل أبيب وفرارهم السريع، أكثر واقعية. في الواقع، تحاول حماس، في الوقت الذي تذل فيه الصهاينة، أن تجعل روايتها أقوى وأكثر قبولًا من خلال تقديم وثائق إعلامية.
لم يصدق الصهاينة أيضاً!
وصلت هذه المعركة الإعلامية إلى نقطة لم يعد فيها الصهاينة يصدقون حتى كلام وسائل الإعلام الخاصة بهم. وأحد أسئلة الاستطلاع التي طرحها المعهد الصهيوني للديمقراطية، والتي نُشرت عام 2020، هو مستوى الثقة في وسائل الإعلام الصهيونية. وحسب المستطلعين، فإن ثقة اليمين بوسائل الإعلام أقل بكثير من ثقة الصهاينة المعتدلين واليساريين وفقط 20٪ من اليمين يؤمنون بالإعلام وفي أحسن الأحوال 64٪ فقط من اليسار. ويُظهر الاختلاف البالغ نحو 55٪ في مستوى الثقة بين اليمين واليسار في وسائل الإعلام فجوة إعلامية خطيرة في الكيان الصهيوني. لكن هناك سؤال مثير للاهتمام، هل يظهر الإعلام الصهيوني الوضع في تل أبيب أسوأ مما هو عليه في الواقع؟
الخاتمة
يخاف الكيان الصهيوني كثيرا من وسائل الإعلام، لكن هذا الخوف ليس نابعا من كون تلك الوسائل الاعلامية تقوم بفضح جرائمه، ولكن لأن تلك الوسائل الاعلامية تقوم بنشر الكثير والكثير من انتصارات الفلسطينيين. شيرين أبو عقلة أو السيدة رزان نجار التي رفعت يديها في مسيرات العودة للسير على الأسوار لمساعدة الجرحى وارتدت ثوب التمريض الأبيض، استهدفها الصهاينة وأصبحت صورها عالمية. الكشف عن طبيعة الكيان الصهيوني، وهي طبيعة لم يعد من الممكن إخفاؤها خلف الدبلوماسية السرية، حيث أصبح العالم يعتبر الكيان الصهيوني كيان الفصل العنصري. وتعتبر الحرب النفسية التي تشنها وسائل الإعلام الصهيونية نوعًا من الهجوم العدائي المبرمج، الذي يستهدف التأثير على عقول الأفراد ونفسياتهم ومعتقداتهم، عبر إثارة الإشاعات الكاذبة والفتن، وذلك بهدف غرس الخوف وتمزيق المجتمعات، وزعزعة ثقة الشعوب بجيوشها والتشكيك بقدراتها، ولا تتوقف الدعاية الإسرائيلية عند هذا الحد، فهي تتسم بالدهاء الأسود، إذ تستخدم اسلوب التكرار وتشويه الحقائق من أجل إبراز مفاهيم معينة وتصديرها إلى العالم، ولقد اعتمدت وسائل الإعلام الصهيونية على منهجية ثابتة لصناعة الأكاذيب والإشاعات وترويجها بحرفية عالية.