الوقت- يتوالى الزحف البشري المليوني نحو مدينة كربلاء المقدسّة مع إقتراب موعد الـ20 من صفر ذكرى شهادة الإمام الحسين عليه السلام، لإحياء ذكرى الأربعين بعد مسيرة ممزوجةٌ بالحب و الإيمان و المشقّة و العقل و العاطفة و المعتقدات الصادقة. ففي كل عام تشد الرحال الى كربلاء الإيثار من جميع أصقاع الأرض حيث يخطف أبي الأحرار (ع) أبصار و عقول و قلوب العشّاق.
شعيرة الأربعين التي تميّز بها مذهب أهل البيت عليهم السلام، وتقام سنوياً بعد أربعين يوماً من ذكر شهادة ثالث أئمة أهل البيت، الإمام الحسين(ع)، تجري في السنوات الأخيرة في ظل جملة من الضروف الحساسة و الصعبة مقابل المد الارهابي و التكفيري الذي شوه صورة الاسلام و المسلمين باساليب همجية و بربرية وغيرها من الاعمال التي يندى لها الجبين، مما جعل الغرب و حتى بعض الذين ينسبون أنفسهم للإسلام، يتصورون أن رسالة الإسلام مبنية على هذه المظاهر الوحشية، أو أن هؤلاء (داعش وأخواتها) هم الاسلام في واقعه و جوهره، بينما أثبت زوّار الأبعين، حيث يعقد أكبر تجمّع بشري في العالم إذ وصل عدّد الزوار في العام الماضي إلى حوالي الـ20 مليون أي أكثر من ست أضعاف عدد الحجاج إلى بيت الله الحرام، أنهم مكارم الأخلاق التي بُعث من أجلها النبي وجوهر الإسلام الأصيل.
زوّار الأربعين
لم تتوقّف زيارة الأربعبين في يوم من الأيام، و حتى في أعتى الظروف حافظ المسلمون عموماً و أتباع مذهب أهل البيت على وجه الخصوص، على هذه الشعيرة الإسلامية التي كلّفتهم التضحيات الغالية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، في عصر المتوكّل العباسي فرضت ضريبة مالية قدرها ألف دينار من ذهب على كلّ شخص يرد كربلاء لزيارة قبر الحسين (ع)، ولمّا رأت السلطات العباسيّة أنّ هذه الضريبة الباهظة لم تمنع الناس من زيارة الحسين (ع) أضافوا إليها ضريبة دموية، فكانوا يقتلون من كلّ عشرة زائرين و احداً يعيّن من بينهم بطريق القرعة، و في بعض الأحيان تقطع يد الزائر اليمني، فيأتي أحدهم مطالباً بقطع يده اليسرى لأن اليمنى فقدها في العام السابق.
هذه الجموع الرهيبة لا تعرف الخوف و الجذع بل تسير بقلوب ملؤها الشجاعة و القوّة رغم توقّعها الموت في أي لحظة من قبل الاعداء، الأعداء الذين إنتحلوا إسم الإسلام و الإسلام منهم بُراء، و لعلّ هذا ما يفسّر الحضور الضخم رغم الأخطار التي تتربصهم من كل حدب و صوب.
هذا غيض من فيض العشق لجموع مليونية تزحف نحو قبر الحسين (ع) من مختلف انحاء العالم، أكثر من 50 دولة في العام 2014، ركوبا و سيرا على الاقدام لمئات الكيلومترات، مكتفية بملابسها الشخصية، يرافقها العطاء و النبل و الكرم و الاخلاق النبوية من تراحم و تحاب و تواد و تآلف و كأنهم من اسرة وعائلة واحدة. ففي طريق كربلاء الكل أخوة يجمعهم الإسلام و الفطرة السليمة، هناك يسير العراقي بجنب اللبناني و السعودي بجنب الإيراني و الأفغاني بجنب الروسي و الأمريكي و البحريني والسويدي و الصيني و الأسترالي و غيرهم، هناك "القرية الكونية" تتحوّل إلى "عائلة كونية" تُظهر الوجه الأنصع للإسلام، لأن كل أوجه "الإسلام الحقيقي" ناصعة.
عند الحديث عن زيارة الإربعين، لا بد من التطرّق إلى كرم و ود الشعب العراقي في استضافة زوار الأربعين، مسلمين و غير مسلمين، فهناك في كربلاء حيث تتجمّع ملايين الحشود البشرية، و رغم الإمكانات الضعيفة سواءً من البنى التحتيّة و غيرها، ترى أبناء الشعب العراقي يقدّمون كافّة الخدمات لزوار الحسين(ع)، هؤلاء الزوار الذين يحافظون على أهداف نهضة الحسين (ع).
إننا اليوم، في ظل هذه الهجمة الشرسة التي يتعرّض إليها الإسلام، سواءً من الأعداء الخارجيين أو الداخليين (الجماعات الإرهابية)، نحن بحاجة و أكثر من أي وقت مضى للتعرّف على الإسلام المحمدي الأصيل، و لعل فرصة الأربعين أفضل هذه السبل لملايين الزوار التي تجسّد الحب والمودة بعيدا عن الحقد والبغض ولغة الدماء أو حتى شرطي واحد، سوى من وقف على حماية هذه الجموع المباركة.
لا تشكّل أربعين الحسين بن علي (عليهما السلام) مواجهة بين "الاسلام المحمدی الاصیل" و"الارهاب المنسوب للاسلام" فقط، بل ساحة للمواجهة مع الإسلام الإنحرافي و الإسلام الإنهزامي و اسلام الخمول و الکسل و الانعزال. هنيئاً لزوار الأربعين اللذين يعيشون تفاصيل الإسلام بكل تعالميه من أخوة ومحبة و إحترام ورفضٍ لكل عوامل التفرقة التي زرعها الإسلام الأمريكي و اللندني وعزّزها "الإسلام" الداعشي التكفيري.
في الختام، إن كربلاء الحسين (ع) في العشرين من صفر يجب أن تكون أرضاً للزود عن الإسلام والمسلمين من هجمات الإرهابيين ورعاتهم، و بالفعل تثبت زيارة الأربعين، و بكل واقعيّة، أن"الإسلام محمدي الوجود، وحسيني البقاء".