الوقت- ضجة كبيرة أثارتها تحركات المدعي العام الجديد للمحكمة الجنائيّة الدوليّة، كريم خان، قبل أيام والتي تتعلق بإعادة إطلاق تحقيق حول أفغانستان، البلد الذي سيطرت عليه حركة "طالبان" المتشددة عقب 20 عاماً من احتلال القوات الأميركيّة وانسحابها، حيث سيركّز التحقيق الأمميّ فقط على طالبان وما يعرف بـ "تنظيم الدولة الإسلامية - ولاية خراسان" بينما لن يمنح الجرائم الأميركيّة المفترضة أدنى أولويّة، برغم أنّ الاحتلال الأمريكيّ لعقدين جعل أفغانستان غارقة بالحروب والدمار والإدمان والفقر، ومن ثم تخلت عنها واشنطن لتسقط بيد طالبان التي استولت على معدات عسكريّة أمريكيّة تُقدر بعدة ملايين وربما مليارات الدولارات.
في عذر أقبح من ذنب، برر المدعي العام في المحكمة الجنائية الدوليّة عدم منح أولوية للتحقيق بالجرائم المشتبه بارتكابها من جانب القوات الأميركيّة وقوات الحكومة الأفغانيّة بنقص الموارد، فيما ذكر ممثل الادعاء في المحكمة أنّه يسعى للحصول على موافقة لاستئناف التحقيق في جرائم الحرب بأفغانستان والذي يركز على عمليات طالبان وتنظيم الدولة فقط، بعد أن احتلها الجيش الأمريكيّ لسنوات طويلة وسرق آثارها ونفطها ومقدراتها، ودمر حضارتها ووحدتها وأمنها.
ورغم أنّ المدعين قد نظروا سابقاً في الجرائم المشتبه بارتكابها من جانب القوات الأميركيّة والأفغانيّة، إلا أنّ كريم خان الذي بدأ قبل 6 أشهر مهمة تستمر لمدة 9 سنوات قال أنّهم في الوقت الحاليّ لن يجعلوا من هذا الأمر "أولويّة" مقابل التركيز على حجم وطبيعة الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، حيث يعيش المواطنون الأفغان رعباً غير مسبوق نتيجة سيطرة المتشددين على البلاد، ويرمون بأنفسهم إلى التهلكة بحثاً عن مهرب لهم أيّاً يكن، وقد رأينا مشاهد الموت المرعبة عند سيطرة طالبان على العاصمة كابل، لدرجة أنّ الهلع دفع بعضهم للتشبث بأطراف الطائرات الأمريكيّة الهاربة ليسقط الكثير منهم ضحية قرارات البيت الأبيض في الاحتلال والفرار في أبشع المشاهد التي وثقتها عدسات الكاميرات.
وعلى ما يبدو فإنّ الولايات المتحدة صاحبة السجل الدمويّ في أفغانستان ستنجو من العقاب والحساب باعتبار أنّ المنظمات الدوليّة مرهونة بيد المتسلطين ومشتري الذمم، لذلك وصف هذا الإعلان بأنّه "خطأ فادح" و "جريمة بحق الأفغانيين"، كما أنّه إهانة كبرى لآلاف الضحايا الآخرين الذين سقطوا نتيجة جرائم القوات الحكومية الأفغانية وقوات الاحتلال الأمريكي وحلف شمال الأطلسيّ.
ومن الجدير بالذكر أن المحكمة الجنائية الدولية -التي تتخذ من لاهاي مقرا لها- استمرت في متابعة مزاعم جرائم الحرب في أفغانستان لمدة 15 عاما، قبل أن تفتح تحقيقا متكامل الأركان بشأنها العام المنصرم، وتم حفظ التحقيق بطلب من الحكومة الأفغانية التي زعمت أنها تحقق في الجرائم بنفسها، حيث إن المحكمة الجنائية الدولية محكمة "ملاذ أخير"، إذ تتدخل فقط عندما لا يكون بإمكان دولة عضو فيها من إحالة جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الإبادة الجماعية إلى المحاكمة أو تكون غير راغبة في ذلك.
"تغيير مهم في الأوضاع"، هكذا وصف بيان خان سقوط الحكومة الأفغانية المعترف بها دوليا وحلول طالبان محلها في حكم البلاد، متحدثاً أنّه بعد مراجعة الأمور بعناية، توصل إلى خلاصة مفادها أنه لم يعد هناك احتمال في الوقت الحالي لإجراء تحقيقات محلية حقيقية وفعالة داخل أفغانستان"، دون إبداء أيّ تعاطف على الشعب الأفغانيّ الذي ذاق ويذوق الويلات.
وفي ظل غياب أي تعليق من حكومة حركة طالبان في العاصمة الأفغانية كابل، تضمنت رسالة خان إلى المحكمة أن الدلائل الأولية تشير إلى أنه من غير المرجح أن تتوافق سياساتهم بشأن المسائل المتعلقة بالعدالة الجنائية والاعتبارات المادية الأخرى مع تلك المعتمدة منذ عام 2002، حيث إن التحقيق المرتبط بأفغانستان من أكثر تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية إثارة للجدل، خاصة بعد أن فرضت إدارة الرئيس الأميركيّ الأسبق، دونالد ترامب، عقوبات على "فاتو بنسودة" التي كانت تتولى المنصب قبل كريم خان، على خلفية التحقيق المرتبط بأفغانستان والذي يستند على أدلة تدين الجيش الأمريكي ووكالات المخابرات الأمريكية بالتعذيب والقتل والاغتصاب وانتهاك الكرامة الإنسانية في أفغانستان، وتحقيق آخر يتعلق بالأراضي الفلسطينيّة، قبل أن يرفع الرئيس الأمريكي جو بايدن تلك العقوبات.
في النهاية، أفلتت الولايات المتحدة من العقاب على جرائمها بحقّ المدنيين العزل في أفغانستان، رغم أنّ آلاف القتلى من المدنيين سقطوا بنيران القوات الأمريكيّة ووصل عدد القتلى في أفغانستان منذ عام 2001 إلى ثلاثة ملايين، بينهم مئات آلاف الأطفال دون سن الخامسة حتى، إلا أن هذه الأرقام الكارثيّة لعدد القتلى لم تكن كافية لتدفع المحكمة الجنائية الدوليّة لمعاقبة المجرمين الأمريكيين.