الوقت- تعتبر الحياة الإجتماعية العمود الفقري لأي مجتمع او مدينة حيث لا يمكن أن تتكامل البشرية في ظل غياب واقع إجتماعي مساعد، إلا أنه اليوم وبعد ظهور الجماعات التكفيريّة في سوريا وسيطرتها التامّة على بعض المدن، وبالتالي تحكّمها بمفاصل الحياة الإقتصادية والإجتماعية، لاسيّما تنظيم داعش الإرهابي في مدينة الرقّة، لابد من مراجعة واقع الحياة الإجتماعية في ظل داعش في مدينة الرّقة السورية.
الرقّة في سطور
تقع مدينة الرقة على الضفة اليسرى لنهر الفرات على مسافة نحو 180 كم شرقي حلب، وتبلغ مساحة محافظة الرقة نحو19,620 كم2 ، أي حوالي10.6% من مساحة سورية، وقد بلغ عدد سكانها المسجلين في الأحوال المدنية عام 2010 حوالي 1059000وفق إحصائيات المكتب المركزي للإحصاء، وينتمي سكان المدينة إلى الطائفة السنية، مع وجود أقلية مسيحية لا تتجاو الواحد بالمئة.
تتّسم الرقّة بالطابع العشائري(تشكّل العشائر السورية 35 في المئة من السوريين، ويتركز ثقلها في المناطق الشرقية والشمالية وتؤكد بعض الإحصائيات أن 90 % على الأقل من سكان هذه المحافظات من خلفيات قبلية) حيث تضمّ العديد من القبائل العربية أهمها السبخة، الهنادة، العفادلة، عنزة، البوعساف، الشبل، البورجب، زور شمر وسخاني، مما أضفى على نسيجها الإجتماعي نوعاً من القبلية المعروفة بعاداتها، بدءاً من العلاقات الإجتماعية المتينة، مروراً بالكرم والإلتزام الديني التقليدي وصولاً إلى إتخاذ الطرف الأقوى شريكا في الحروب والنزاعات.
الواقع الديمغرافي للرقاويين تأثر بشكل بعدّة عوامل جعلت منه مجتمعاً قاسياً كطبيعته الصحراوية الصعبة، كما أن إهمال الحكومات السورية المتعاقبة للمنطقة الشرقية بشكل عام وللرقة على وجه الخصوص أفضى إلى واقع تعليمي وثقافي ضعيف (تحتل الرقّة المركز الأول في نسبة الأمية في سوريا، حيث تقدّر بـ37%،أي ما يعادل ضعف نسبتها في سورية البالغة 19%، وفق تقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي )، مما دفع بالعديد من شبّان المدينة إلى ممارسة الأعمال الشاقّة كالبناء والحفر و..، وهذا ما أثر لاحقاً على جذب هؤلاء الشباب نحو التنظيمات الإرهابية، ومهد الطريق أمام دخول الأفكار المتطرفة والتكفيرية إلى فكر أبناء المدينة، تماماً كما هو الحال في أغلب المجتمعات الفقيرة والعشائرية التي تتعرّض لهجوم تكفيري، سيناء مصر وحضرموت اليمن وأنبار العراق.
سقوط مدينة الرقّة
كانت الرقة أول مدينة سورية خرج منها الجيش السوري بشكل كامل في آذار 2013، حيث سقطت بتاريخ 4/3/ 2013 بيد المعارضة بعد معارك شارك بها بشكل رئيسي " كتائب أحرار الشام" بمساندة بسيطة من "جبهة النصرة" التي سارعت إلى احتلال مبنى المحافظة واتخاذه كمقر رسمي لها منذ اليوم الثاني.
تطورات الرقّة أثّرت بشكل كبير على الواقع الديمغرافي للمدينة حيث إنخفض عدد سكّان المدينة إلى حوالي300 ألف شخص(تقدّر بعض التقارير عدد سكان مدينة الرقة قرابة 550.000 نسمة)، أقل من 1% منهم مسيحيون، بحسب وكالة فرانس برس، وبالتالي إنخفضت العائلات المسيحية في الرقّة من الـ600 تقريباً إلى 50 عائلة بعد سيطرة المعارضة.
إلا أن اللحظة الحاسمة لسكان المدينة، بدأت مع سيطرة التنظيم الإرهابي في شهر آب من العام 2014 على مطار الطبقة العسكري، آخر مواقع الجيش السورية في المحافظة، وبذلك، يكون «داعش» قد سيطر بشكل كامل على محافظة الرقة، من دون أن تشاركه السيطرة على أي جزء منها لا القوات الحكومية ولا باقي قوى المعارضة، باستثناء بعض القرى الواقعة في شمال غرب المحافظة، المحاذية لمحافظة حلب، والتي تسيطر عليها «وحدات حماية الشعب» الكردية.
الرقّة في ظل داعش
بعد سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على المدينة السورية، التي كانت في السّابق العاصمة الصيفيّة للخلافة العباسيّة، وإعلانها عاصمة الخلافة الجديدة، عمد إلى سلسة من الإجراءات الأولية بدأت بحملات الاعتقال العشوائية ثم الافراج عنهم مع ظهور تعذيب هائل على أجسادهم في "رسالة واضحة بأن من يعارض وجودنا سوف يلقى نفس المصير وبالفعل كانت نتائج المرحلة الأولى مبهرة، فأخذت التجمعات الشبابية المدنية بالانكماش نتيجة فقدانها لزخم الشارع الذي كان يمثل بنيتها الرئيسية وقوتها الأساس، فضلاً عن تراجع العديد من الشعائر ومبايعتها لداعش. لتخلو الساحة بالكامل تقريبا لتنظيم الذي إنتقل إلى المرحلة الثانية التي هدف من خلالها إلى "تطهير" المدينة من المعارضين. بعدها إنتقل التنظيم الإرهابي إلى المرحلة الثالثة عبر فرض قوانينها بوصفها دولة من خلال فرض الزكاة (نسبة 2.5%)، وضرائب مالية على المحلات التجارية لقاء الحماية ومضايقات على الطريقة السعودية فيما يخص المرأة ( لباسها – حجابها ), التدخل بالمعاهد التعليمية الخاصة من أجل الفصل بين الذكور والإناث، كذلك مطالبة المسيحيين، بأن يدفعوا الجزية أربعة دنانير من الذهب (4.25 غرام من الذهب الصافي عيار 24 قيراط) على أهل الغنى، ونصف ذلك على متوسطي الحال، ونصف ذلك على الفقراء منهم، ولهم ان يدفعوا على دفعتين في السنة)، ويقبلون تقييد ممارسة شعائرهم الدينية وإلا واجهوا القتل أو قبلوا باعتناق الإسلام.
بعد إحكام التنظيم سيطرته على المدينة، وطرده لكافّة الجماعات المسلحة وترهيب بقيّة السكان، قدّم نفسه على أنه رافع لواء "العدالة"، ونجح التنظيم في فرض نوع من الامن والاستقرار في المناطق الخاضعة لنفوذه، ما نال قبول البعض، لابل ساهم في هجرة بعض السكان من مناطقهم التي تشهد إشتباكات وقصف متبادل بين الجيش السوري ومختلف الجماعات الإرهابية الآخرى كـ"جيش الفتح" إلى "دولة الخلافة"( تقدّر بعض التقارير عدد النازحين في مدينة الرقّة بحوالى 250 ألف، إلا أنه لا يتسنى التأكّد من دقّة هذه المعلومات). ففي ظل «داعش»، إذا ما حصلت سرقة أو إعتداء، يمكن الذهاب إلى المحاكم الشريعة التي أنشاها التنظيم لضمان حقوق الملكية من دون الحاجة إلى العلاقات الشخصية (الواسطة).
كذلك وبالتزامن مع قمع حرية الناس في التعبير، وجملة من المحاكمات غير المنصفة تحت لواء العدالة واستصدار مراسيم وبلاغات تشمل كل مناحي حياة سكان المدينة؛ من إغلاق المدارس ريثما تصدر مناهجها التعليمية الجديدة ( المناهج الجديدة إنقسمت إلى ثلاثة أقسام، قسم أول يعنى بالعلوم الدينية والفقهية والعقيدة الخاصة بالتنظيم وتشمل كتب تحتوي على فكر التنظيم الذي يعتمد بشكل رئيسي على تعاليم وآراء محمد بن عبد الوهاب وعدد من الفقهاء المعتمدين من قبل التنظيم، قسم ثاني يهتم بالعلوم الدنيوية كالرياضيات و الفيزياء واللغتين العربية والإنكليزية، وقسم ثالث يتضمّن مواد جديدة أحدثها التنظيم، كالسياسة الشرعية التي تتشابه بمادة بمادة التربية القومية،و الإعداد البدني حيث تعلم الأطفال فنون القتال وكيفية استخدام الأسلحة)، إلى التدخل في لباس الرجال والنساء، إلى "حفلات" الإعدام وقطع الرؤوس في الساحات والشوارع الرئيسية، عمد التنظيم إلى استغلال العوز الاقتصادي بغية جذب الناس إلى صفوفه. فعلى سبيل المثال، يقدّم «المجلس الدنماركي للاجئين» حوالى 50 دولاراً شهريّاً إلى كل لاجئ سوري في جنوب تركيا يقدَّر أنه في حاجة إلى مساعدة. مقارنةً بذلك، يقدّم داعش إلى المقاتلين السوريين رواتب شهرية لاتقلّ عن 300 دولار، إضافةً إلى 50 دولاراً عن كل طفل ومخصّصات أخرى للزوجات والسكن.
في الجزء الثاني
نتابع في الجزء الثاني من هذه المادة،، ما هو خلف جدران سلطة الأمر الواقع في المدينة الجهادية، إضافةً سرد جملة من تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع الرقاوي، والتطرق إللى نقاط القوّة والضعف للتنظيم الإرهابي في المدينة، و في النهاية مستقبل هذا التنظيم في المدينة السورية.