الوقت- إن "المؤسسة السياسية الألمانية ستبقى مدينة له بالكثير، حيث قادها لتجاوز مرحلة تاريخية صعبة"، هكذا نعت أنجيلا ميركل، المستشار الألماني هيلموت شميت، خامس مستشار لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. توفي شميت عن عمر يناهز 96 عاماً أمس الثلاثاء في مسقط رأسه في هامبورغ. وكان شميت شخصية سياسية مخضرمة استطاعت قيادة ألمانيا خلال التسعينات وبداية الثمانينات على الرغم من وجود أزمات محلية وعالمية. فكيف يمكن الإضاءة على بعضٍ من جوانب حياة الزعيم الألماني؟
يُعرف الرجل بـ "المشاغب" بسبب سياساته التي لا تعرف الإستسلام. وقاد شميت ما يُعرف بـ "ألمانيا الغربية السابقة" خلال زمن الهجمات الإرهابية التي كان يشنها تنظيم "ألوية الجيش الأحمر" والتي عانت منها البلاد خلال سبعينات القرن الماضي. وعرف شميت بجرأته وخوضه السجالات الإعلامية والسياسية، لذلك كان يصفه الإعلام الألماني بـ"المشاغب". ومنذ سنة 1983 ساهم شميث كرئيس في صحيفة "دي تسايت" الأسبوعية. كما ألف أكثر من ثلاثين كتاباً، وبقي على الرغم من تقدمه في السن، مستشاراً يُلجأ إليه ولآرائه السديدة في القضايا الألمانية والأوروبية والعالمية. عرف عنه ولعه بالمعرفة، فقد كان يمتلك رصيداً معرفياً مُبهراً، ويتميز بتحليله لأزمات العالم بطريقة عميقة. كما أن آراءه كانت مقياساً يُستعان به لكثير من المستمعين والقراء. استطاع بسبب معرفته العميقة وهدوئه البروز كسياسيٍ ومستشار، كما تميز في أدائه الهادئ وإدارته الحكيمة لأزمة الفيضانات عام 1962 في هامبوغ.
ولادته وحياته الأسرية:
ولد هيلموت هينريك فالديمار شميت في 23 كانون الأول 1918 بمدينة هامبورغ بعد أسبوعين من نهاية الحرب العالمية الأولى، وحلم بأن يصبح معمارياً غير أن الحرب العالمية الثانية غيرت مسار حياته، إذ جند وقاتل في الجبهتين الشرقية والغربية. تزوج منذ الصغر هانلوره جازر عام 1942. وقبلها بعام أي في 1941 تم استدعاؤه للجيش إلى جبهة الشرق. وفي نيسان 1945 سقط في الأسر البريطاني، وأطلق سراحه في آب من العام نفسه. بعد انتهاء الحرب درس شميت الإقتصاد وانضم عام 1946 للحزب الإشتراكي الديمقراطي الذي تحول فيما بعد إلى واحد من أهم منظريه الفكريين ورموزه التاريخيين.
مسيرته السياسية:
بدأت المسيرة السياسية الحقيقية لشميت عام 1953 بانتخابه عضواً في البرلمان الألماني "البوندستاغ". إلا أن اختياره وزيراً لداخلية ولاية هامبورغ عام 1961، يعتبر التحول الأبرز في هذه المسيرة، إذ اكتسب من خلاله شهرة واسعة في عموم ألمانيا بسبب مواجهته خلال عهده لتداعيات الفيضانات الواسعة بشمالي ألمانيا. وفي عام 1965 أعيد انتخابه لعضوية البوندستاغ، ثم تولى بعد عامين رئاسة الحزب الإشتراكي الديمقراطي. وبعد فوز الإشتراكيين في انتخابات 1969 وتشكيلهم الحكومة الألمانية بمشاركة الحزب الديمقراطي الحر تولى شميت منصب وزير الدفاع، ثم أسندت له عام 1972 وزارتا المالية والإقتصاد. وبعد استقالة المستشار الإشتراكي الديمقراطي فيلي برانت عام 1974 بعد الكشف عن فضيحة تجسس مدير مكتبه لحساب جهاز استخبارات ألمانيا الشرقية "شتازي"، أدى هيلموت شميت اليمين الدستورية مطلع تشرين الأول من العام نفسه كمستشار خلف برانت وبقي في هذا المنصب حتى غادره عام 1982 بعد حجب الثقة عن حكومته بالبرلمان.
خلال رئاسته الحكومة الألمانية واجه شميت أزمات عالمية وتحديات داخلية كبيرة، أبرزها مواجهة تداعيات قطع الدول العربية إمدادات النفط عن الدول الموالية للكيان الإسرائيلي، وتصاعد حدة المواجهة مع المعسكر الشيوعي وتزايد الهجمات "الإرهابية" في البلاد، لا سيما تلك التي طالت منظمة بادر ماينهوف التي اغتالت رئيس اتحاد الصناعات الألمانية هانز مارتين شلاير، واختطفت طائرة ألمانية في الصومال. كما أسس شميت مع الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان، محور بون باريس كنواة للمجموعة الأوروبية، ووضع الرجلان النواة الأولى لنظام العملة الأوروبية. وفي مواجهة التهديدات العسكرية المتزايدة لحلف وارسو في السبعينيات تبنى هيلموت شميت إستراتيجية مزدوجة لوضع صواريخ نووية أمريكية متوسطة المدى بألمانيا، ودعوة المعسكر الشرقي للتفاوض على نزع هذه الصواريخ من أوروبا.
علاقته بالعرب ودعوته الغرب للتخلي عن النظرة الدونية
كان يعتبر أن علاقته بالمسؤولين العرب، حولته إلى الإهتمام بالقضايا الفكرية في العالم الإسلامي ولعبت دوراً مؤثراً في تصحيح تصورات نمطية سلبية علقت بذهنه لسنوات طويلة عن الإسلام. وهو الأمر الذي بدا جلياً من خلال دعواته إلى عدم استفزاز المسلمين، وتخلي الغرب عن النظرة الدونية للعالم الإسلامي الذي يمثل ثلث العالم. كما نادى بتغيير الصورة النمطية السلبية الموجودة عن الإسلام في المناهج الدراسية الألمانية والغربية. وفي أكثر من مقابلةٍ عبر شميت عن أنه يحمد الله لأنه غير نظرته للإسلام إلى الأفضل، بينما يأسف لأن تطبعت ذهنية أجيال متعاقبة بألمانيا والغرب بما علمته لهم الكنائس من نظرة سلبية عن الإسلام. وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة بيلد الشعبية في حزيران الماضي، توقع شميت صعود العالم الإسلامي والصين وأفريقيا كقوى جديدة في المشهد العالمي خلال الـ 35 عاماً القادمة.
إنسحب شميت من الحياة السياسية قبل أكثر من ثلاثين عاماً، إلا أنه واصل المشاركة في نقاشات سياسية وثقافية في بلاده، وعرف بجرأته وحسه الفكاهي.