الوقت- يبدو أن السجن مهما طال قيده، فشمس الحرية حتما ستشرق في قلوب الفلسطينيين وبيوتهم، وستنتصر الارادة على القيد وقهر السجون ويجتاز الفلسطيني حدود العزل وعتمة الزنازين ليشق دربه نحو الشمس مسلحاً بالعزيمة والاصرار ومؤمناً بالحياة الكريمة.
لطالما عاشت غالبية عائلات فلسطين المحتلة، من بحرها إلى نهرها، تجربةَ الاعتقال في السجون الصهيونية، وتجرعت شتّى صنوف التعذيب الجسدي والنفسي، ولطالما سمعنا حكايات نسجت من أرواح لم تعرف الهزيمةَ يوما، بل صمدت أمام كل محاولات اللجم.
ففي غياهب القيد، اختارت "صمود سعدات" ابنة الأمين العّام للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، أحمد سعدات من سيصبح شريك حياتها، ورفيق دربها: إنه عاصم "عاصم الكعبي"، الإنسان الذي شق طريقَه بالنضال منذ الصغر، مؤمناً بعدالة قضية فلسطين وإنسانيتها.
تعرفت "صمود" على "عاصم " خلال عملها في مناصرة الأسرى والدفاع عنهم بمؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، وكان رفيق والدها في السجن الإسرائيلي. وقبلت سعدات الارتباط بالأسير الذي تحكمه سنوات الأسر وسلاسل السجان ومصير مجهول، واختارت أن ترافقه في رحلة ليس لها نهاية.
وبعد 18 عاماً التقى القلب بالقلب أخيراً وعانقت صمود خطيبها كما عانق هو الحرية، واستقبلته بثوب فلسطيني مطرّز ومزيّن برسومات تراثية، وزفه رفاقه وذويه في مخيمه بلاطة شرق مدينة نابلس.
تلك الأرقام والأحكام التي يطلقها الكيان الصهيوني بعشوائية على الأسرى لا قيمة لها، ولا يُؤمن بها في فلسطين، فمهما بدت كثيرة ليس صعبا على فلسطينية أحبت دربا تعرف أن آخره موعد مع الحرية، وهي أرقام تنّم عن قهر وخوف من أسير لا يهاب السجن ولا السجان.
التعارف
تعرفت صمود على عاصم الكعبي 43 عاماً خلال عملها في مناصرة الأسرى والدفاع عنهم بمؤسسة الضمير لحقوق الإنسان. وكان رفيق والدها في السجن الإسرائيليّ، عندما قررا الارتباط وتقدم لخطبتها منه، دون أنْ يلتقي معها ولو لمرّةٍ واحدةٍ.
في عام 2018، عُقد قران صمود وعاصم عن بُعد، وأقيم لهما حفل خطوبة تحول إلى مهرجانٍ وطنيٍّ مُسانِدٍ للعروس التي وقفت وحدها بلا عريس ولا والد بجانبها. قالت صمود إنّ عقد القران كان محاولة أيضًا من أجل السماح لها بزيارته، باعتبارها زوجته رسميًا، وهو ما سمح الاحتلال به لأوّل مرّةٍ أواخر عام 2019 في سجن النقب الصحراوي.
وعن هذا اللقاء قالت "صمود" أنّه كان لقاء صعبا و”بقدر ما حملتُ من حب ولهفة واشتياق للقائنا الأول، شعرت بالإحباط والحزن للأسلاك الشائكة والحواجز التي فصلتنا”.
في العام الأخير، بدأت صمود عدًا تنازليًا شاركته متابعيها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وقالت “عددت الأيام حتى اللحظة الأخيرة للقائه، على أمل أنْ تلحقها حرية والدي، وكان عاصم أيضًا يشطب الأيام في تقويم داخل سجنه كي نصل إلى لحظة صفر فراق”.
عاصم الكعبي المقاوم
اعتقل عاصم الكعبي في كمين نصبته وحدة إسرائيلية خاصة قرب مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، أواخر أبريل (نيسان) 2003، وكان عمره 25 عامًا. وقالت خطيبته إنه اعتقل بعد 3 سنوات من المطاردة بتهمة مقاومة الاحتلال.
وكان الكعبي عنصرًا في الشرطة الفلسطينية، قبل أنْ يغادرها للنشاط في “كتائب أبو علي مصطفى” الذراع العسكرية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى) عام 2000.
وبعد اعتقاله، خضع الكعبي لتحقيق قاسٍ استمرّ 3 أشهر متتالية في مركز “بيتح تيكفا” القريب من شمال الضفّة الغربيّة، ثم حكم عليه بالسجن 18 عامًا بتهمة المشاركة في عمليات للمقاومة الفلسطينية.
وبعد عام من اعتقاله فقد الكعبي صديقه ورفيقه في المقاومة نادر أبو الليل الذي اغتالته قوات الاحتلال في أيار 2004، وبعدها صار الكعبي يُعرف في سجنه وبأوساط أهالي الأسرى بـ” أبو نادر”. وخلال سنوات اعتقاله أيضًا، فقد الكعبي والديه، وقالت خطيبته إنّ وفاتهما كانت أقسى ما واجهه خلال اعتقاله.
وشارك الكعبي في معظم معارك الإضراب الجماعية التي خاضها الأسرى الفلسطينيون عن الطعام خلال العقدين الأخيرين. وقالت صمود إنّه استند إلى إيمان راسخ بالحرية طوال فترة حكمه، وإن “سنوات السجن الطويلة لم تنتزع إنسانيته ولم تضعف قدرته على العطاء لقضيته، وبالعكس، عززت حبه لشعبه وبلده وللحياة”.
خطبة "صمود" لأحد الأسرى تتجاوز الجانب الشخصي، فهي أيضاً رسالة إلى العالم بشأن الحالة الإنسانية للأسرى السياسيين. حيث قالت عن هذا الأمر: "رسالتنا من خلال فعلنا هذا هي أنَّنا نحاول اغتنام فرحتنا على الرغم من القيود والسجن المفروض علينا من الاحتلال الإسرائيلي، الذي يحرمنا من رؤية أحبائنا".
وأفرجت سلطات الكيان الصهيوني، يوم الخميس 24 ابريل الماضي عن الأسير عاصم كعبي من سجونه، بعد اعتقال دام 18 عاماً. وبعد الافراج عن عاصم ووسط فرحة ظاهرة، قالت صمود سعدات إنّها ستبدأ مع عاصم حياةً جديدةً بعد الاحتفال مطولاً بحريته، ثم يشرعان في التحضير للزفاف وتأسيس عائلة ولدت من الحرمان والبُعد.
وسيجري في الضفة الغربية المُحتلّة حفل زفافٍ يؤكِّد للعالم برّمته أنّ الشعب الفلسطينيّ أقوى من جميع التحدّيات وسيحطم قيود الزنازين وتنتصر إرادة الحياة الفلسطينية على المحتل الزائل.
ربما هذا ليس غريباً عن الفلسطينيات، فهن يؤمن بأن الارتباط بأسير لا يزال قيد الاحتلال، ما هو إلا مقاومة من نوع آخر، فالاحتلال يعتقد أنه قادر على تقييد الجسد والروح وايقاف مظاهر الحياة، لكنه لا يعلم أن الفلسطيني يحب الحياة ما استطاع إليها سبيلا ويقاوم من أجلها بكل ما أوتي من قوة، فهو ينير عتمة سجنه ببصيص الأمل المرسل من الله عبر قضبان الزنزانة. وبهذا يترجم انتصار ارادة القيد على السجن وظلم السجان وان الاسير الفلسطيني مهما طال زمن الاعتقال واشتدت ظلمة الزنازين الا انه يعيش بنور التحدي والصبر والحياة.