الوقت_ لا يخفى على أحد أنّ ملف إدخال الرباط في حظيرة التطبيع الأمريكيّة مقابل اعتراف واشنطن بالسيادة المغربيّة على الإقليم الصحراويّ التابع لجبهة "البوليساريو"، قد وتّر العلاقات المغربيّة الإسبانيّة بشكل كبير، حيث تعتبر مدريد بحسب إعلامها أنّ ذلك يقوض النفوذ الذي تحتفظ به إسبانيا وفرنسا على المنطقة المغاربيّة، ويعزز دور إدارة بايدن في المنطقة والموقف المغربيّ في التنافس الذي يحافظ عليه مع الاتحاد الأوروبيّ لاستغلال مياه الصحراء التي تُعد منطقة غنيّة بالمعادن مثل التيلوريوم أو الكوبالت أو الرصاص، ومؤخراً كررت وسائل الإعلام الإسبانيّة، أن حكومة البلاد تدرس تحويل مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين إلى منطقتين عسكريتين، من أجل مواجهة "طموحات المغرب"، في ظل القلق الإسبانيّ العارم إزاء قضية "التوسع الإقليميّ للمغرب".
بحسب تصريحات سابقة، لم يخفِ رئيس الحكومة المغربيّ، سعد الدين العثماني، طرح ملف سبتة ومليلية المحتلتين من إسبانيا بعد ما أسماه "حل نزاع الصحراء الغربيّة" الذي يحظى بالأولوية بالنسبة لبلاده، واليوم تشير وسائل إعلام إسبانيّة إلى أنّ مدير مكتب رئيس الحكومة الإسبانيّة، إيفان ريدوندو، صرح أمام لجنة شؤون الأمن القوميّ في البرلمان، أنّ الحكومة الإسبانيّة تدرس خطة لتحويل سبتة ومليلية المُحتلتين إلى قلعتين عسكريتين حفاظاً على الأمن القومي الإسبانيّ، بحسب زعمه، ما يشي بتأزم أكبر ستشهده العلاقة بين البلدين في الأيام القادمة.
وما يؤرق مدريد في حقيقة الأمر هو المنافع الاقتصاديّة التي ستجنيها الرباط من اعتراف واشنطن بمغربية الصحراء، حيث بيّنت المواقع الإخباريّة الإسبانيّة، في وقت سابق، أنّ المشروع العملاق لإنشاء خط أنابيب غاز يربط نيجيريا بالمغرب وأوروبا، لابد أن يمر عبر الصحراء الغربيّة التي يسيطر المغرب على حوالي 80% من أراضيها عقب انسحاب موريتانيا من الصحراء الغربية عام 1979، والتي تبلغ مساحتها 266 ألف كيلومتر مربع.
وفي الوقت الذي نوه فيه تقرير لمعهد الأمن والثقافة الإسبانيّ قبل مدّة، إلى أن خطط المغرب لإعادة التسلح إلى جانب اعتراف أمريكا بمغربية الصحراء "تمثل تحدياً لوحدة الأراضي الإسبانيّة وللمصالح الاقتصادية الأوروبيّة"، أوضح مدير مكتب رئيس الحكومة الإسبانيّة، وجود خطة أمنيّة جديدة ستعتمدها الحكومة، ابتداء من الصيف المقبل، للتركيز على تحويل الثغرين المحتلين إلى مناطق عسكريّة.
ولا تكف إسبانيا عن مساعيها الحثيثة لمنع المغرب من السيطرة على كامل الإقليم الصحراويّ بعد التطبيع مع الصهاينة والحصول على الضوء الأخضر الأمريكيّ، حيث يشهد الإقليم الصحراويّ نزاعاً بين المغرب وجبهة البوليساريو منذ العام 1975، وذلك بعد انتهاء فترة وجود الاحتلال الإسبانيّ في المنطقة، ليتحول إلى مواجهة مسلحة بين الجانبين، توقفت عام 1991 واستمرت لمدة 16 عاماً، بتوقيع اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية الأمم المتحدة، وتطالب الجبهة باستفتاء عادل يقرر مصيرهم وتعتبره السيناريو الأمثل لحل الأزمة التاريخيّة، وهو طرح تدعمه الجزائر التي تؤوي عشرات آلاف اللاجئين من منطقة الصحراء الغربيّة.
ويأتي المقترح الإسباني الأخير، في وقت تشهد فيه العلاقات مع المغرب تأزماً غير مسبوق، منذ استقبال اسبانيا لزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي، حيث قالت وزارة الخارجية المغربيّة في بيان شديد اللهجة حينها، أنّ قرار السلطات الإسبانيّة بعدم إبلاغ الرباط بقدوم زعيم جبهة البوليساريو هو "فعل يقوم على سبق الإصرار وليس مجرد إغفال بسيط، وهو قرار سياديّ وخيار إراديّ لمدريد، متحدثةً أنّ المغرب أخذ علماً كاملاً به وسيستخلص منه كل التبعات، وذلك في ظل توجس إسبانيّ من التطور العسكريّ المغربيّ والديناميكيّة الإيجابيّة التي شهدها ملف الإقليم الصحراويّ بعد اعتراف واشنطن غير الشرعيّ بسيادة الرباط على الأراضي التي تحتلها هناك.
ومن الجدير بالذكر أنّ قضية استقبال إسبانيا لإبراهيم غالي على أراضيها أثار غضب المغرب بشكل كبير، لأنّ سلطات البلاد تخوض نزاعاً مع "جبهة البوليساريو" على الإقليم الصحراويّ، وتحاول الرباط بكل ما أوتيت من قوة تطبيق مبادرة الحكم الذاتيّ للإقليم الصحراويّ ولكن تحت سيادتها، فيما تُصر جبهة البوليساريو على رفض الخطة المغربيّة الراميّة للسيطرة على أراضيهم، وتعتبر الأمم المتحدة جبهة البوليساريو الممثل الشرعيّ الوحيد للشعب الصحراويّ، وتطالب السلطات المغربية بضرورة ترك حق تقرير المصير للصحراويين أنفسهم.
ويُظهر الإعلام الإسبانيّ قلق حكومة البلاد من خطط الرباط المتعلقة بالتفوق العسكريّ الإقليميّ، والذي يضع ضمن أهدافه كسر النفوذ الجزائريّ في المنطقة اقتصاديّاً وعسكريّاً بالاستناد إلى دعم الولايات المتحدة والسعودية، حيث إنّ الجيش المغربيّ تطور عسكريّاً في السنوات الأخيرة بعد حصوله على موارد ماديّة مكنته من تنويع مصادر التزود بالأسلحة، بالإضافة إلى زيادة كبيرة في ترسانته الحربيّة، في ظل تحذيرات داخل إسبانيا من سباق التسلح المغربيّ، لأنّه يولد عدم استقرار إستراتيجيّ على المديين القصير والمتوسط في شمال إفريقيا، كما أنّ إحكام السيطرة على الصحراء الغربيّة يمكن أن يمثل على المدى الطويل، تحدياً لوحدة أراضي إسبانيا، ما يعني بالفعل أن العلاقات بين البلدين تتجه بشكل كبير نحو الهاوية.
إذن، فجوة كبيرة بين المغرب وإسبانيا لا يمكن ردمها بسهولة في ظل الصراع المُستميت على النفوذ، ومن غير المُستبعد أبداً أن يثير المشروع الإسبانيّ الجديد في حال قيام رئيس الحكومة الإسبانيّة، بيدرو سانتيز، بعرضه على البرلمان توتراً جديداً بين البلدين، وأن يفاقم العلاقة الدبلوماسيّة التي وصلت هذه الأيام إلى حد القطيعة.