الوقت- رغم محاولات التشويش على خطاب السيد حسن نصرالله الذي ألقاه يوم الثلاثاء الماضي بمناسبة ذكرى النصر والتحرير وكذلك تداعيات نصر المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، إلا أنه استطاع أن يضع النقاط على الحروف ضمن المعادلات الاقليمية الجديدة، حيث تمكنت المقاومة الفلسطينية في الحرب الاخيرة من القضاء على مشروع تفتيت المنطقة وكذلك وضعت حدا في وجه حمى التطبيع التي بدأت تنتشر في البلاد العربية.
تصريحات مهمة وجوهرية أدلى بها الأمين العام لحزب الله، حيث أسس السيد نصرالله في خطابه (الثلاثاء) لمعادلة لم تكن مطروحة سابقاً في الإعلام؛ معادلة تُراكِم وتُضيف إلى معادلة "سيف القدس" التي ربطت سلاح غزة بالقدس وبفلسطين، من النهر إلى البحر. أكّد السيد نصر الله أن "المَسّ بالمسجد الأقصى والمقدَّسات لن يقف عند حدود مقاومة غزة"، وأن المعادلة التي يجب أن نصل إليها هي التالية: "القدس في مقابل حرب إقليمية".
لا يحتاج الأمر إلى كثير من التمعّن كي يدرك المتابع أن طرفَي الحرب الإقليمية هما "إسرائيل" في مقابل محور المقاومة الممتدّ من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن، وصولاً إلى إيران. ما لم يُسهب فيه السيّد نصرالله، في خطابه في ذكرى المقاومة والتحرير، سبقَ أن لفت إليه في خطابات سابقة عند الحديث عن التحوّلات في الإقليم لمصلحة محور المقاومة. وهو عندما يتوقف، على نحو خاصّ، أمام موقف المرجعية الدينية الممثَّلة بالسيد السيستاني في العراق، فهذا الأمر له دلالاته التي لا تتوقف عند الرهان على تحويل مزاج الرأي العام في العراق، عن القضية الجوهرية، فلسطين، لمصلحة محور التطبيع، وما يستتبعه من حرب ناعمة تُسخَّر لها مختلف الأدوات.
إن الترجمة الفورية لمعادلة "القدس في مقابل حرب إقليمية"، هي الانتقال من حالة الدفاع الاستراتيجي إلى حالة الهجوم الاستراتيجي لدى محور المقاومة. أمام هذا التحوّل الذي بدأت ملامحه تتنامى منذ مدة، سيدرك الإسرائيلي، بحسب تعبير السيد نصر الله، "أن أيَّ خطوة ستكون نتيجتها زوالَ كيانه".
لقد شكّلت معركة "سيف القدس"، في هذا السياق، "بروفة" عما ينتظر الكيان الصهيوني في حرب في جبهات متعددة؛ حرب توقعّها واستشرفها في مراكز أبحاثه، وفي تقديراته الأمنية والعسكرية، لكنه ما زال قاصراً عن إكمال استعداداته لها، بحسب ما كشف الإعلام الإسرائيلي خلال الأسبوعين الأخيرين. هذا فضلاً عمّا كشفته "ملحمة فلسطين" عموماً من عيوب تعتري "إسرائيل" التي فوجئت بهبّة أهل الأرض الأصليين والأُصَلاء في فلسطين المحلتة. ومع ذلك، تبقى هناك احتمالات لمغامرات قد تُقْدِم عليها "إسرائيل" في لحظة تعتبرها ملائمةً لتغيير قواعد الاشتباك، واستباقاً للقدرات المتنامية لدى المقاومة في لبنان، وبلوغها نقطة اللاعودة. من هنا، يأتي تحذير المقاومة من أي رهانات إسرائيلية على الوضع الاقتصادي في لبنان، والمغامرة في أيّ عمل عسكري أو أمنيّ، وهو ليس التحذير الأول.
لم يتوقف إعلام التطبيع عند إشارة السيد نصر الله إلى أن "معركة سيف القدس وجَّهت ضربة قاسية إلى مسار التطبيع ودول التطبيع ووسائل إعلامها"، ليضيف إنه "بعد المعركة نستطيع القول بوضوح إن صفقة القرن سقطت وتلاشت".
لقد مثّلت "صفقة القرن" محطةً جديدة ومتقدِّمة في طريق محاولة إنهاء القضية الفلسطينية. شُبِّه لعرّابيها أن اللَّحظة باتت مواتية للانقضاض على ما تبقّى من جَذْوتها، والاستفراد بفلسطين. من المفيد هنا التذكير بما قاله جاريد كوشنير، في منتصف شهر آذار/مارس الماضي، خلال مقابلة مع صحيفة "وول ستريت جورنال"؛ أي قبل معركة "سيف القدس".
قال: "نحن نشهد آخر بقايا ما عُرف بالصراع العربي الإسرائيلي"، وذكَر أن أحد أسباب استمرار الصراع العربي الإسرائيلي فَترةً طويلة "هو الأسطورة القائلة إنه لا يمكن حلُّه إلاّ بعد أن تحلّ إسرائيل والفلسطينيون خلافاتهم"، مشدداً على أن هذا الأمر "لم يكن صحيحاً أبداً". ورأى أن "العالم العربي لم يعد يُقاطع الدولة اليهودية، بل يراهن على أنها ستزدهر"، مضيفاً "أن الأهم من ذلك، أن التطبيع بين السعودية وإسرائيل يَلُوح في الأفق.. بدأ الشعب السعودي يرى أن إسرائيل ليست عدوَّه".
"صفقة القرن" لم تكن إلاّ محطة جديدة ومتقدِّمة في طمس القضية والتآمر على المقاومة. جاءت معركة "سيف القدس" لتُنهِيَ مفاعيلها، تماماً كما أنهت حرب تموز 2006 مفاعيل مشروع "الشرق الأوسط الكبير". مشاريع ومخطَّطات اتَّخذت أشكالاً ولبوساً متعدِّدة، منها الحرب العسكرية، ومنها التآمر، ومنها الضغوط الاقتصادية، ومنها التسلُّل الناعم، ومنها مخطَّطات التعاون الاقتصادي، كما نظّر شمعون بيريز في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، عندما رأى أن "مشروع السلام" في المنطقة، لو قُدِّرَ له النجاح، سيكون بالنسبة إلى "إسرائيل" أفضلَ من الخوض في مواجهات جديدة، إذ يعتبر أن التركيز على السلام والتنمية الاقتصادية والتعاون التكنولوجي أهمُّ من الحروب.
مفاعيل "سيف القدس" لم تَنتَهِ بعدُ، وهي ستشكِّلُ، على الأرجح، محطةً تأسيسية مضادّة للمشروع الصهيوني وأدواته، التي تنوّعت خلال السنوات الأخيرة، وعملت على إشعال المنطقة ومحيط "إسرائيل" بحروب الفتنة خلال سنوات "الربيع العربي"، وإطلاق "داعش"، الوجه الآخر للصهيونية، والتي جاءت "صفقة القرن" و"اتفاقات أبراهام" تتويجاً لها.
ماذا لو نجحت المخطَّطات التي حيكت لمنطقتنا خلال السنوات الأخيرة، فكيف كان ذلك سيؤثّر في فلسطين؟ يسأل السيد نصر الله في خطابه، لكن من غير المتوقَّع أن يجيب إعلام التطبيع.