الوقت- تتصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا بسبب الاستماتة الكبيرة للحصول على القطعة الأكبر من الكعكة السودانيّة، حيث وصلت إلى ميناء "بورتسودان" على البحر الأحمر ثلاث سفن حربية أمريكيّة وروسية خلال أيام معدودة وفق ما أفادت مواقع إخباريّة، ورحبت الخرطوم بالسفينتين الأمريكيتين اللتين قامتا بزيارة هي الأولى للميناء منذ عقود، بحسب السفارة الأمريكية في السودان، ولدى استقباله المدمرة "ونستون تشرشل" في ميناء بورتسودان، أوضح القائم بالأعمال الأمريكيّ، برايان شوكان، قبل أيام أنّ هذه الزيارة التي وصفها بـ "التاريخيّة" تظهر دعم واشنطن لما أسماه "الانتقال الديمقراطيّ في السودان"، ورغبة الولايات المتحدة في عهد جديد من التعاون والشراكة مع الخرطوم، في ظل الفترة الانتقاليّة التي بدأت في البلاد في 21 أغسطس/ آب عام 2019، و تستمر لـ 53 شهراً تنتهي بإجراء انتخابات مطلع العام 2024، ويتم تقاسم السلطة خلالها بين الجيش والقوى المدنية.
تنافس كبير
بضع ساعات فقط، هي الفاصل الزمنيّ بين استقبال ميناء بورتسودان شرقيّ السودان، للفرقاطة الروسية الأدميرال جريجوروفيتش، واستقبال المدمرة الأمريكيّة ونستون تشرشل، في الميناء ذاته، في مشهد عكس حجم التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا، لإيجاد موطئ قدم لهما في ساحل البحر الأحمر، وتعزيز نفوذهما في تلك المنطقة الاستراتيجيّة، حيث تبلغ مساحة البحر الأحمر 438 ألف كيلومتراً مربعاً، وهو البحر الخامس عشر في العالم، ومحاط بتسع دول هي السعودية ومصر واليمن وجيبوتي والصومال وإريتريا والسودان والأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة، ويربط القارات الثلاث أي إفريقيا وآسيا وأوروبا، لذلك فإن هذه المنطقة تتمتع بموقع جيوسياسيّ وجيواقتصادي متميز.
ويُظهر التسابق بين موسكو وواشنطن على الوجود في تلك المنطقة، حجم التنافس التاريخيّ بين الطرفين منذ زمن بعيد، ويعتقد محللون أنّ الولايات المتحدة تحاول قطع الطريق على الروس هذه المرة، مستخلصة العبر مما حدث في سورية وليبيا، حيث استطاع الروس بسط نفوذهم في هذين البلدين وباتوا يؤثرون بالفعل على مجريات الأحداث هناك.
ويشار إلى أنّ هذه هي المرة الثانية خلال أسبوع، التي تصل فيها بارجة حربيّة أمريكية إلى ساحل البحر الأحمر، في خطوة تدل على تطور العلاقات بين واشنطن والخرطوم بعد عقود من الجمود، وكانت البارجة “كارسون سيتي” التابعة لقيادة النقل البحريّ الأمريكيّ، قد رست في مياه البحر الأحمر في 24 شباط/ فبراير المنصرم.
كذلك، تغنى بيان السفارة الأمريكيّة بالخرطوم، بدعم الولايات المتحدة للانتقال الديمقراطيّ في السودان، وتعزيز الشراكة معه، متناسيّاً العقوبات التي فرضتها واشنطن على الشعب السودانيّ وجعلته يعاني لسنوات طويلة، والتي لم تكن لترفع حتى الآن لولا قيام الحكومة السودانيّة الانتقاليّة بالتطبيع مع العدو الصهيونيّ الغاصب، وقد قام نائب القيادة الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم" للتواصل المدنيّ العسكريّ، أندرو يونج، ومدير المخابرات الأدميرال هايدي بيرج، بزيارة للعاصمة السودانيّة في يناير/ كانون الثاني المنصرم، لتوسيع نطاق الشراكة بين الخرطوم وواشنطن ، في ظل الرغبة الأمريكيّة العارمة في وجود عسكريّ في المياه الإقليميّة السودانيّة.
وتؤكّد بعض التقارير أن العلاقات الأمريكيّة - السودانيّة شهدت تحسناً بعد إزاحة الرئيس عمر البشير عن السلطة، في نيسان/ أبريل عام 2019، وأنّهما تسعيان إلى إقامة شراكة اقتصاديّة بينهما، لكن إرسال الفرقاطة الروسية إلى السودان يمثل واقعة هي الأولى من هذا القبيل في تاريخ روسيا الحديث، بحسب وصف المكتب الصحفيّ لأسطول البحر الأسود الروسيّ.
وبناء على ذلك ستقوم الفرقاطة الروسيّة خلال زيارتها بالتزود بالوقود كما سيحظى أفراد طاقمها بقسط من الراحة بعد المشاركة في تدريبات بحريّة، متعددة الجنسيات شملت 45 دولة وأجريت في بحر العرب يومي 15 و16 شباط/ فبراير، حيث تدربت أطقم سفن الدول المشاركة على التواصل فيما بينها عند صد هجمات من أهداف صغيرة عالية السرعة، بالإضافة إلى تدريبات على مكافحة القرصنة، وفقاً لما ذكرته تقارير إخباريّة.
مرحلة انتقاليّة
يرى مراقبون للوضع السودانيّ، الذي يعيش مرحلة انتقاليّة لا تخلو من معاناة اقتصاديّة وتوترات مع الجارة إثيوبيا ما بين نزاعات حدوديّة وأخرى تتعلق بمخاوف سودانيّة من تداعيات بناء سد النهضة الإثيوبي، تحاول الخرطوم تحقيق أقصى استفادة من صراع النفوذ الأمريكيّ – الروسيّ، خاصة عقب دخول السودان حظيرة التطبيع الأمريكيّة، وما تبعه من قيام إدارة الرئيس الأمريكيّ السابق، دونالد ترامب رسمياً، في كانون أول/ ديسمبر الفائت، بشطب السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، الأمر الذي فتح الباب أمام إزالة القيود على أيّ تعاون عسكري بين الجانبين.
وتشمل المرحلة الجديدة من التنسيق بين واشنطن والخرطوم، تعاوناً استخباراتيّاً في مجال مكافحة الإرهاب والجماعات المتطرفة في القرن الأفريقيّ، وربما تصل إلى حد السماح للقوات الأمريكية باستخدام تسهيلات عسكريّة في السودان، فيما أبدت واشنطن، عبر سفارتها في الخرطوم مطلع الأسبوع الفائت، رغبتها في التعاون العسكريّ الوثيق مع السودان، موضحة أنّ الملحق العسكريّ، بها جاكوب داي، يعمل مع الجيش السودانيّ لتعزيز العلاقات الثنائيّة بين البلدين.
ومن الجدير بالذكر، أنّ تسارع التحرك الأمريكيّ يأتي بعد نحو شهر من الإعلان عن الروسيّ عن تأسيس مركز لوجيستيّ تابع لبحريتها في ميناء بورتسودان، والذي ربما يصبح نواة لقاعدة عسكريّة في تلك المنطقة، وكشفت وسائل إعلام أنّ هذا المركز يستوعب حوالي 300 جنديّ ومدنيّ وأربع سفن من بينها سفن تعمل بالطاقة النوويّة، وفقاً لاتفاق منذ بضعة سنوات بين الجانبين مدته 25 عاماً قابلاً للتجديد لمدة 10 سنوات أخرى، على أن تحصل حكومة السودان مقابل ذلك على أسلحة ومعدات عسكريّة روسيّة.
ويأتي الاندفاع الروسيّ كما الأمريكيّ، في إطار حرص روسيا على تعزير نفوذها في القارة الأفريقيّة التي تزخر بالثروات الطبيعيّة وتعد سوقاً ضخمة للسلاح الروسيّ، وكانت وكالة أنباء "تاس" الروسيّة الحكوميّة أشارت إلى أهمية المركز اللوجيستيّ المزمع إقامته في تسهيل عمليات الأسطول البحريّ الروسيّ في المحيط الهندي، واعتبرت أنّ ذلك سيمكن البحرية الروسيّة من تبديل طواقم القطع البحرية الروسية المنتشرة في المحيط عبر نقلهم جوا إلى السودان، فضلاً عن إمكانية نشر أنظمة دفاع جويّ روسيّة في المنشأة لحمايتها ومنع تحليق الطيران في أجواء القاعدة.
وفي الوقت الذي التزمت فيه الخرطوم الصمت في البداية حيال هذه المعلومات، نفى رئيس هيئة أركان الجيش السودانيّ، الفريق الركن محمد عثمان الحسين وجود اتفاق كامل مع روسيا، مؤكداً أن الاتفاق مع موسكو حول القاعدة يخضع للدراسة في ظل استمرار التعاون العسكريّ معها، موضحاً أنّ "السودان لن يفرط في سيادته".
أسرار التسابق الأمريكيّ - الروسيّ
إنّ ما شهدته السواحل السودانيّة من التسابق الروسيّ الأمريكيّ مؤخراً، يجعلنا نبحث أكثر عن أسرار هذه الرغبة على الساحل السودانيّ الذي يبلغ طوله 850 كيلو متراً، والممتد من حلايب وشلاتين شمالاً (المُتنازع عليها مع مصر)، إلى راس كسار جنوباً على الحدود الإريتريّة، ويعد ثاني أطول ساحل على البحر الأحمر بعد السواحل السعودية، الأمر الذي يجعله نقطة جذب كبيرة للدول العظمى، بحسب خبراء.
إضافة إلى ذلك، يذخر الساحل السودانيّ بالثروات الحية وغير الحية الكبيرة، لأنّ البحر الأحمر يتميز بتنوع الأحياء البحرية داخله، بجانب احتوائه على المعادن المتنوعة والملح الأبيض والسياحة، لذلك فإنّ الساحل السودانيّ مؤهل بشكل كبير للانفتاح الخارجيّ، بسبب احتوائه على 10 موانئ، تقع 5 منها في مدينة "بورتسودان" وحدها.
وإنّ التغيرات السياسيّة في السودان، عقب سقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير، مثلت نقطة تحول جذريّة في العلاقات بين السودان والولايات المتحدة على وجه الخصوص، وهذا ما أكّده نائب المشاركة المدنيّة في تغريدة له على موقع تويتر، حيث أوضح أنّ السودان في لحظة تغيير جذريّ في العلاقة الثنائيّة بين البلدين.
ويتحدث محللون سودانيون، أنّ التحولات السياسية الأخيرة في السودان، جعلت أنظار الدول العظمى تلتفت إليه وتبحث عن موطئ قدم لها في شواطئه الآمنة، بعد خروج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والتي ربما تمكن الخرطوم من لعلب دور إقليميّ وعالميّ أكبر.
وبالاستناد إلى نظرية "ماهان" الاستراتيجيّة، فإنّ "من يسيطر على البحر، يسيطر على البر"، وهذه المقولة تعتبر خلاصة نظريات الأدميرال الأمريكيّ ماهان، التي تستند عليها استراتيجيّة القوات البحريّة الأمريكيّة، وإنّ وصول السفن البحرية الأمريكيّة إلى الشواطئ السودانيّة يمثل استعراضاً كبيراً للقوة، في ظل الاعتماد الأمريكيّ الكبير على قوة سلاح البحريّة.
وذكرت تقارير سودانيّة، أنّ العلاقات العسكريّة مع واشنطن لها تاريخ قديم، وكانت البحرية الأمريكية بالسودان في ثمانينات القرن المنصرم تقوم بعمليات "النجم الساطع"، كما كانت تخزن معداتها في ذلك الوقت في قاعدة "فلمنقو" البحريّة، وإنّ زيارات السفن البحرية الأمريكية إلى ميناء بورتسودان، تعتبر أكثر من مجرد زيارات دبلوماسيّة، بحسب تصريحات قائد القوات البحريّة، قيادة النقل البحري في أوروبا وأفريقيا وقائد فرقة العمل «63» النقيب فرانك اوكاتا، الذي ادعى أنّ بلاده يشرفها العمل مع شركائنا السودانيين فيما أسماه "تعزيز الأمن البحريّ".
وما يبرهن حجم الاندفاع الأمريكيّ للتواجد في البحر الأحمر، ما قاله القائم بالأعمال في السفارة الأمريكية بالخرطوم بريان شوكان، والذي أوضح أنّ هذه الزيارة تساعد على تعزيز ما وصفه بـ السلام والأمن والحفاظ على حرية البحار"، في الوقت الذي تسعى فيه واشنطن للسيطرة الممرات المائيّة والتجارة العالميّة، في ظل التوترات التي أحدثتها في الشرق الأوسط، خاصة وأنّ قرابة 10% من السلع العالميّة تمر عبر البحر الأحمر الذي يربط بين منتجي الطاقة في الخليج والأسواق الغربيّة.
علاوة على ذلك، فإنّ السواحل السودانية أصبحت تجذب انتباه القوى العظمى لنشر قواتها العسكرية البحرية، عقب تراجع الاستقرار في البحر الأحمر بعد الحرب السعوديّة على اليمن وانتشار القراصنة الصوماليين، وهذا ما يجعل ميناء بورتسودان يتمتع بالأمان الشديد نسبيّاً لأنّه لم يشهد أيّ عملية تفجير سفن في تاريخه.
وبالعودة إلى الأطماع الروسيّة، فإنّ الرغبة الروسيّة بالتواجد في السواحل السودانيّة، والتي دعمتها باتفاقية نشرتها الصحيفة الرسميّة الروسية في 9 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ووقعها الرئيس الروسيّ، فلاديمير بوتين، في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، تؤكّد الاتفاق على إنشاء قاعدة عسكرية روسية في الساحل السودانيّ تسمح لقوات البحرية الروسية بالتموين والصيانة.
وبناء على ذلك، حصلت الخرطوم بالفعل من روسيا على سفينة حربية للتدريب بطول يتراوح بين 50- 60 متراً لأغراض التدريب، وتشتمل الاتفاقية الروسية السودانية على حصول الخرطوم على أسلحة ومعدات عسكريّة، وتشكل المساحات البحرية السودانية والبالغة 140 ألف كيلو متر مربع، تساوي مساحة دولة مثل بنغلاديش.
ويظن البعض، أنّ الوجود الأمريكيّ لا يتعارض مع الوجود الروسيّ، فدولة جيبوتي تستقبل سوحلها عدداً كبيراً من الدول إلى جانب قيادة القاعدة الأمريكية في أفريقيا "الأفريكوم"، إلا أنّ خبراء آخرون حذروا من هذا الأمر، مشددين على ضرورة أن تتعامل الخرطوم بحذر لإدارة التسابق الأمريكي الروسي على سواحلها، لأنّ عدم الميل إلى أيّ طرف منهما سيسمح للسودان بجذب الاستثمارات وتقوية الذراع العسكريّ والاستفادة من القوة الاقتصاديّة والسياسيّة التي يمنحها لها الوجود العالميّ في سواحلها مما يؤهلها لأدوار إقليميّة هامة.
ويرى آخرون، أنّ ما يحدث من تدافع بين واشنطن وموسكو، يمكن أن يعيد الخلافات التي حدثت بينهما سابقاً في التزاحم على السواحل الجيبوتيّة، حيث إنّ الولايات المتحدة قد ضغطت على السلطات الجيبوتيّة حتى لا تسمح لموسكو بإقامة قاعدة عسكريّة تطيل أمد الوجود الروسيّ في السواحل الأفريقيّة، ومن المحتمل أن تتعرض الخرطوم لضغوط أمريكية للتنصل من الاتفاقية مع روسيا، وهو ما يجعل السودان أمام امتحان صعب في إدارة العلاقات مع الدول العظمى دون أن يضطر لخسارة علاقاته مع أيّ دولة.