الوقت- لعلّ نتائج زيارة أوباما الأخيرة الخاطفة إلى موسكو بدأت قبل حصولها، وتوالت التعليقات والتحليلات فور الإعلان عن الزيارة المستعجلة التي شكّلت تثبيتاً وتأكيداً اوليّاً لما يجري من تحولات استراتيجية في منطقة الشرق الأوسط وتبدلات في موازين القوى على الصعيد الدولي والإقليمي.
فالتسونامي الروسي الذي دفعت أمواجه نتنياهو إلى أعتاب الكرملين لم يكن بحسبان كثيرين، بل إنّ ترددات هذه الزيارة ومفاعيلها الأوليّة بدأت بعيد التصريحات التي ألقاها كل من بوتين ونتنياهو في موسكو، ولن تنتهي إلا بتراكم وتعاظم الحضور الروسي وحلفائه أكثر في منطقة الشرق الأوسط وتراجع النفوذ الأمريكي فيها. فما هي نتائج هذه الزيارة على الصعيد الإسرائيلي والإقليمي والدولي؟ وما هي مفاعيلها على ساحة الأزمة السورية خاصةً بعد الحديث عن آلية تنسيق بين الكيان الإسرائيلي وروسيا؟
إسرائيلياً
في الكيان الإسرائيلي انتظر الشارع والنخب الفكرية والسياسية ان يقوم نتنياهو بتوجيه تحذير وإنذار لموسكو بالمخاطر المترتبة على تدخلها العسكري المباشر في سوريا. لكنه خيّب آمال كيانه بعد ان خذله سيده الأمريكي الذي لم يستطع تحريك أي ساكن ودفعه للوقوف على أبواب موسكو مرتجياً التطمينات الروسية في الازمة السورية. فالنتيجة التي اعتبرها نتنياهو الإنجاز الكبير في زيارته، أنه تمّ الاتفاق على تنسيق مشترك لمنع وقوع أي مواجهة غير مقصودة بين الجانبين الروسي والإسرائيلي في سوريا، أثار العديد من التساؤلات والشكوك حول جدوى هذه الزيارة والنتائج التي خرجت بها. بل وصل البعض إلى وصف الإنجاز بالوهمي وأنّ نتنياهو وضع الکيان الإسرائيلي في موقف محرج وكأنه يستجدي روسيا لمنع كسر التوازن على الجبهة السورية والخشية من وصول أسلحة إلى حزب الله.
فقد طرحت القناة الثانية الإسرائيلية علامات إستفهام حول حقيقة هذا الإنجاز الذي أعلنه نتنياهو في ضوء ما جرى تداوله في الکيان الإسرائيلي عن أن التفاهم على التنسيق بين الطرفين قائم قبل لقاء موسكو، وعليه بات السؤال المطروح هل كلف نتنياهو والوفد المرافق له عناء السفر الى موسكو لانجاز ما هو قائم ومنجز ام أنّ الموقف الروسي الثابت تجاه الأزمة في سوريا لم يتح لنتنياهو إلا الحديث عن التنسيق؟
فالخطوط الحمراء التي أعلن عنها نتنياهو في مستهل لقائه بوتين، وهي منع وصول أسلحة متقدمة إلى حزب الله والحيلولة دون فتح جبهة في الجولان، خطوط ليس واضحاً لأحد في الکيان الإسرائيلي حقيقة الجواب الروسي عليها كما أشارت القناة، لكن الواضح وفق تقارير إسرائيلية هو أن حرية عمل سلاح الجو الاسرائيلي في سوريا ستتقلص وروسيا لن تقبل بهجمات اسرائيلية في منطقة دمشق على ما ذكرت القناة العاشرة. في حين سألت القناة الأولى: "ماذا سيحصل إن كشفت اسرائيل نقل سلاح روسي متطور الى حزب الله؟" لتخلص الى ان الاختبار الحقيقي يتعلق في نهاية المطاف بالأفعال لا بالاقوال. واضافت أن من غير المستبعد أن يُبحث تقسيم خريطة السماء السورية بين الجانبين، والاتفاق مسبقاً على الاماكن التي يسمح للکيان الإسرائيلي بالتحليق فيها، واخرى يمنع عليها ذلك. فبكل المعايير لن تعود يدها مطلقة في الأجواء السورية. فالإعلام والمحلّلون والشارع الإسرائيلي يرون أنّ زيارة نتنياهو ليست سوى تعبير عن الفشل والعجز الإسرائيلي في إدارة الأزمات من حولها وتراجع حضورها في المنطقة.
إقليمياً
لم يكد يمرّ يوم واحد على الزيارة حتى انطلقت مواقف عكست النتائج والردود عليها إقليمياً خاصة على الساحة السورية. فقد جاء الرد من سوريا حيث افاد مصدرٌ امني سوري لوكالة الصحافة الفرنسية أنّ الجيش السوري تسلم في الأيام الماضية خمس طائرات مقاتلة على الأقل وكذلك طائرات استطلاع ومعدات عسكرية روسية لمساعدته على محاربة تنظيم داعش الإرهابي. وأضاف المصدر "بدأ يظهر أثر السلاح الروسي على الأراضي السورية،" وأكد مصدر عسكري آخر أن "المساعدة الروسية لا تقتصر على الطائرات المقاتلة فحسب، بل وصلتنا أيضاً أسلحة استطلاع جديدة تُساعد في تحديد مكان الهدف بدقة متناهية بالإضافة إلى رادارات مرافقة لها ومناظير ليلية ".
وقد تمّ الكشف عن هذه الأسلحة رداً على زيارة نتنياهو وتأكيداً لما قاله بوتين بعد اللقاء إن روسيا ماضية في سياستها المسؤولة في الشرق الأوسط التي ترتكز على الحفاظ على سوريا وأمنها ومساعدتها بكل الوسائل بوجه الإرهاب. ولم يقدم بوتين أي تطمينات لنتنياهو حول توريد أسلحة متطورة إلى سوريا خشية وصولها إلى حزب الله، بل أكّد دبلوماسيون روس عقب اللقاء أن "مخاوف اسرائيل لا اساس لها لأن طرفي الاتفاقية العسكرية ملزمان بتنفيذ شروط الصفقة، اي عدم تسليم السلاح لطرف ثالث."
فوضع الكيان الإسرائيلي المأزوم إقليمياً بعد التقدم الروسي باتجاه المنطقة لم تغيّره زيارة نتنياهو، بل نتائج الزيارة ستكون عكسية عليه ودافعة باتجاه تنامي القدرات العسكرية السورية من خلال الدعم الروسي وحلفائها على المستويات كافة. أمّا آلية التنسيق المعلنة، فلا تلغي أن القدرة الإسرائيلية باتت مقلصة جداً فوق السماء السورية، وبات يمنع عليها تنفيذ أنشطة عدائية، في كثير من المناطق في سوريا .
دولياً
أكدت زيارة نتنياهو إلى موسكو مدى التحوّل الذي تشهده المنطقة مع تراجع الحضور الأمريكي فيها وعدم قدرتها على لعب دور أساسي حتى في إدارة حركة أدواتها التي خيبت آمالها، وبروز دور روسيا وحلفائها. وهذا ما تداولته وسائل الإعلام الأمريكية منذ أيام حول مسألة التحوُّل الإستراتيجي في سياسات امريكا في الشرق الأوسط لصالح روسيا، وهذا يتوافق مع ما أقرّ به وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في العام 2013 لنظيره الروسي سيرغي لافروف، أن أمريكا قرَّرت تعديل سياستها في الشرق لكن المسألة تتطلب وقتاً وقال: إن أمريكا ليست سيارة صغيرة لتستدير بسرعة بل هي شاحنة كبيرة ويلزمها بعض الوقت للإستدارة.
نتائج وقوف نتنياهو على أبواب الكرملين ستلقي بظلالها على العلاقات الأمريكية الإسرائيلية المأزومة أصلاً، ورجوع الحكومة الإسرائيلية إلى موسكو دون الإذن الأمريكي يعني الكثير على مستوى إدارة ملفات المنطقة وخاصة الأزمة السورية. وستستغل موسكو الخوف الإسرائيلي والعجز الأمريكي في استعادة الثقل على المسرح الدولي بما يسمح لها الحفاظ على مصالحها، وكسر الأحادية القطبية الأمريكية والإستعاضة عن خسارة حلف وارسو الذي انهار بانهيار الإتحاد السوفياتي، والسعي الى حلفٍ جديد مع دول مجموعة "البريكيس" لمنع تفرُّد أمريكا وحلف الناتو بالميدان الأوروبي والمتوسطي.
إنّ زيارة نتنياهو تحمل دلالات بالغة الأهمية في ظل المعادلات الإستراتيجية الجديدة التي يرسمها الدب الروسي في المنطقة، ونتائجها حتماً لن تكون لمصلحة الكيان الإسرائيلي وسيده الأمريكي، بل إنّها إشارة واضحة على قلب موازين القوى لصالح روسيا وحلفائها. وستشهد الأيام القادمة أنّ التغيّر الحاصل على الصعيد الإقليمي والدولي لن ينتهي إلا بحضور أقوى لمحور المقاومة، مع الأخذ بعين الإعتبار أنّ الكيان الإسرائيلي قد يحضّر لسيناريو ما يسعى من خلاله لدفع روسيا لمواجهات عسكرية في سوريا، قرأ محلّلون التخطيط لها في كلام نتنياهو بعد أن عاد بخفي حنين من زيارته لموسكو.