الوقت- قبل عدة أيام وبالتحديد في 19 ديسمبر/كانون الأول الحالي فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الجميع بقرار يفضي إلى انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، قرار ترك خلفه تساؤلات بالجملة حول أهداف ترامب من هذا القرار على اعتبار أن لا أحد في هذه المنطقة يثق بقرارات أمريكا وإن كان ظاهرها جذاباً لكن يبقى في ثناياها ثغرات تسبب فيما بعد خلق "فوضى" جديدة كنا قد رأينا مشابهاً لها في العراق وأفغانستان وها نحن نشهدها في سوريا، فهل حقاً القرار الأمريكي الجديد ينبع من حرص أمريكي على أمن المنطقة وأمن جنودها أم للقصة بقية؟.
في السابق أعلن ترامب في عدة مناسبات رغبته في سحب القوات الأمريكية من سوريا، من دون أن يتمكّن من تنفيذه، لأن رؤية وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) ومعظم أعضاء الكونغرس مغايرة لرؤية البيت الأبيض في هذه المسألة، بدليل التصريحات الكثيرة خلال السنتين الماضيتين، التي ترفض الانسحاب وتقرنه بشروط كثيرة، هذا على المستوى الداخلي لأمريكا.
أما على المستوى الخارجي كان هناك قلق كبير لدى السعودية والإمارات من أن ينفّذ ترامب رغبته ويسحب القوات لأن ذلك يتعارض مع مصالح هاتين الدولتين اللتين تسعيان لإبقاء القوات الأمريكية هناك بهدف خلق توازن في المعادلة السورية التي تكاد تنحصر فقط بالحكومة السورية وحلفائها، ومن هنا وجد ترامب أن بإمكانه ابتزاز هاتين الدولتين عبر الحصول على تكاليف البقاء هناك، وهذا ما قاله صراحةً في نيسان الماضي معتبراً أن التدخل الأمريكي في سوريا مكلف ويخدم مصالح دول أخرى، وإذا كانت السعودية تريد بقاء القوات الأمريكية هناك فعليها دفع تكاليف ذلك. وأضاف ترامب حينها خلال مؤتمر صحفي له مع رؤساء دول البلطيق بالبيت الأبيض: "نعمل على خطة للخروج من سوريا، وإذا كانت السعودية ترغب ببقائنا فيها فيجب عليها دفع تكاليف ذلك".
أما المتضرر الثاني من خروج القوات الأمريكية هم "الأكراد" الذين يستمدون ثقلهم في الشمال السوري من خلال دعم أمريكا لهم ومدهم بالسلاح والأمور اللوجستية، وبالتالي فإن خروجهم سيكون طعنة قاصمة لظهر الأكراد هذه المرة ولن تقوم لهم قائمة بعد الآن على اعتبار أن شرق الفرات قلعتهم الأخيرة التي يريد الأتراك تحطيم أسوارها، عبر شنّ عملية عسكرية قريبة إلى هناك، ورأى الأكراد أنهم تلقّوا طعنة في الظهر ولكنهم مع ذلك سيقاتلون حتى آخر رمق.
المعادلة الأمريكية - التركية
روسيا والدول الإقليمية الأخرى مثل إيران وتركيا ألغوا مجتمعين السيطرة المطلقة للأمريكي والتفرد المطلق بمستقبل المنطقة ورسمها وفقاً لرؤيته التي لم تجلب سوى الويل والخراب لأبناء هذه المنطقة، ومع اختلاف المصالح لكل من إيران وتركيا والروس في سوريا إلا أن هناك خطوطاً عريضة تعمل عليها هذه الدول الثلاثة لتخفيف الاحتقان وإيجاد حل سلمي للأزمة عبر تسوية سياسية شهدنا شرارتها في اجتماعات أستانا والتي قد تفضي قريباً إلى تشكيل لجنة دستورية لسوريا برعاية هذه الدول الضامنة.
وما يجمع هذه الدول رفضها بقاء القوات الأمريكية في سوريا ولكل منها أسبابه الخاصة في هذا الشأن، ولكون واشنطن لم يعد بإمكانها مواجهة هذا المحور بسهولة وفرض آرائها لأنها تعلم أن الضريبة ستكون كبيرة لذلك قررت سحب قواتها، وإن كان هذا الأمر لم يخرج حالياً إلا عن طريق وسائل الإعلام، إلا أن الخطوة بحدّ ذاتها تشي بثقل هذه الدول ولكن ألّا يمكن أن تكون واشنطن قد وضعت تركيا في مأزق من خلال هذا الانسحاب؟.
لماذا نعتقد ذلك؟.
أولاً: أكد أردوغان أن بلاده ليست لديها أطماع في الأراضي السورية، لكن موقفها واضح تجاه الهجمات الإرهابية التي تستهدف تركيا من تلك الأراضي، لكنه في الوقت نفسه توعّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بـ"التخلص" من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية والمقاتلين الأكراد شمالي سوريا، مع قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب قوات بلاده من هناك.
إذن أردوغان ماضٍ في حربه ضد الأكراد وكأن واشنطن أعطته الضوء الأخضر للقيام بذلك، ولكن لماذا يريد أردوغان القيام بهذا الأمر عسكرياً؟، إن لم يكن لديه أطماع كما يدّعي، "حزب العمال الكردستاني" الذي يريد محاربته يشكّل خطراً على الدول المجاورة أيضاً، إذن لماذا يتجاوز هذه الدول وينفرد في قراره، والأهم هو قوله إنه يريد محاربة تنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا وفي الوقت نفسه أخبر ترامب العالم بأن قوات بلاده قضت على التنظيم الإرهابي هناك، إذن ماذا يجري ومن الصادق بينهما؟، يضاف إلى هذا تساؤل بسيط حول مهمة القوات التركية في "إدلب" وغيرها من المناطق، هل الأكراد منتشرون في محافظة "إدلب"؟.
ثانياً: أمريكا لا تريد أن تدخل في مواجهة عسكرية مع تركيا، خاصة وأن للبلدين مصالح مشتركة لا يمكن التخلي عنها غير أنهما عضوين في حلف الناتو، وبالتالي المواجهة بينهما ستكون مكلفة جداً، ولو بقي ترامب في سوريا "إعلامياً" لكان شكّل حرجاً كبيراً للقيادة العسكرية الأمريكية ومصداقيتها على اعتبار أنها الحامي الرئيسي للأكراد وبالتالي مراقبتهم وهم يتعرضون للقصف ستكون طعنة لجميع حلفاء واشنطن وستخسر مصداقيتها لدى الجميع.
ثالثاً: تصرف ترامب هذا قد يدفع الأكراد للتحالف مع دمشق وربما إلى الأبد، وهذا ما يخشاه أردوغان وبالتالي يمكن القول إن قرار ترامب وضع تركيا بين فكيّ كماشة ونعتقد أنها ستفكر طويلاً قبل شنّ الهجوم على الأكراد لأن المعادلة هناك تزداد تعقيداً أكثر من أي وقت مضى.