الوقت- إن جهود واشنطن الرامية إلى فرض الضغوط على القضاة وأعضاء النيابة العامة لدى "المحكمة الجنائية الدولية" (ICC) تكشف عن الرؤية الخاصة والمعايير المزدوجة التي تنتهجها الإدارة الأمريكية إزاء سياسات وأداء المنظمات الدولية، وإطلاق العنان للمسؤولين الأمريكيين في مواصلة السياسات والقرارات الأحادية من دون الاكتراث إلى تداعيات هذه السياسات التدخلية والجرائم التي طالت ولا تزال حقوق الإنسان في أرجاء البسيطة.
إجراءات حكومة ترامب الفوضوية ضد القواعد والضوابط السائدة عالمياً والتي تنضوي تحت "نظرية الانسحاب"، شكّلت عنصراً أساسيا لزعزعة الاستقرار العالمي وفي الوقت نفسه عزلت البيت الأبيض على الصعيد الدولي، وقد جسّد ترامب مواقفه في هذا الإطار عبر قراراته بالانسحاب من الاتفاقيات الدولية وتهديده باتخاذ المزيد من هذه القرارات الأحادية ضد المنظمات الدولية.
كما جاءت في هذا السياق، التصريحات الأخيرة لمستشار الأمن القومي في البيت الأبيض "جون بولتون" الذي هدّد فيها قضاة محكمة العدل الدولية ومدعيها العامين بفرض عقوبات عليهم في حال شرعوا بالتحقيق في احتمال وقوع جرائم حرب داخل أفغانستان من قبل القوات العسكرية الأمريكية، واصفاً هذه المنظمة الدولية بأنها "غير فعّالة وعديمة المسؤولية، وحتى خطيرة".
يعود تاريخ إنشاء المحكمة الجنائية الدولية (International Criminal Court) إلى حقبة طويلة الأمد من المباحثات والمفاوضات التي عقبت الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ وذلك بهدف تأسيس مركز دولي "يضمن السلام والاستقرار" ومقاضاة الأشخاص والجهات المتورطة في ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات ضد الإنسانية.. وقد تمخضّ عن هذه الجهود القرار الصادر عن مؤتمر روما في 1998 والقاضي بتأسيس محكمة الجنايات الدولية، لتحل بشكل رسمي في عام 2002 مكان محكمة العدل الدائمة (PCI).
وتجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى مواقف بعض الدول وهي العراق "والكيان الصهيوني وليبيا والصين وقطر واليمن وأمريكا، التي تمثلت في التصويت برفض "النظام الأساسي" للمحكمة الجنائية الدولية، خلال الاستفتاء الذي نظمته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1998 وذلك مقابل المواقف المؤيدة له من قبل 160 دولة في أرجاء العالم.
ورغم أن الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون أقدم خلال العام 2000 على توقيع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لكن هذه الخطوة لم ترتقِ إلى مرحلة التأييد النهائي قبل مصادقة الكونغرس عليها؛ الأمر الذي لم يرّ النور قطّ.
إن التشكيك في استقلال وسيادة المحكمة الدولية الجنائية لم يقتصر على أمريكا فحسب وإنما هناك بعض الدول (مثل روسيا) التي ظهرت بمواقف مماثلة إزاء هذه المنظمة الدولية، لكن المعروف أن العلاقات بين المحكمة وواشنطن لم تكن يوماً جيدة، وهو ما يفسر أسباب رفض الإدارة الأمريكية على الدوام الانضمام إليها ومحاولاتها التوصل إلى اتفاقات ثنائية مع العديد من الدول لتجنّب اقتياد أمريكيين أمامها للتحقيق معهم.
وفي ضوء ما تقدم ينبغي الإشارة إلى هذه الحقيقة أيضاً، أن مواقف واشنطن من المحكمة الجناية الدولية ليست ثابتة بل تتبع سياسات مزدوجة في إطار المصالح والمآرب التي تسعى وراءها على صعيد السياسة الخارجية وعلاقاتها مع البلدان.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، تخطت واشنطن موقفها الرافض للمحكمة عندما صدر عنها قرار باعتقال الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة تورطه في جرائم؛ كما ظهرت في موقف مماثل خلال العام 2009 عندما احتجت على جهود كينيا للطعن بصلاحية المحكمة فيما يخص تجريم 6 من كبار المسؤولين في هذا البلد.
ويرى المتابعون للشأن الأمريكي أن النزعة الانتقائية وازدواجية المواقف لدى الإدارة الأمريكية تصبح واضحة المعالم عند مقارنة هذه النماذج المؤيدة مع سياسات واشنطن المناهضة على الدوام للمحكمة الجنائية الدولية.
والشواهد، تؤكد أن أمريكا تعتمد القرارات والعقوبات الصادرة عن محكمة الجنايات الدولية ضد البلدان الأخرى وبما يخدم مصالحها فقط.
ومن الأسباب الرئيسية التي تسهم في معارضة واشنطن للمحكمة الدولية الجنائية يمكن الإشارة إلى اختلاف الرؤى حول تحديد مفهوم "الاعتداء" لدى كل من الجانبين، وانطلاقاً من هذه الحقائق يظهر بأن أمريكا متخوفة كثيراً من اتساع صلاحية المحكمة وقراراتها في تجريم شخصيات ومسؤولين لدى بلدان مختلفة ومقاضاتهم دولياً الأمر الذي من شأنه أن يطول قادة عسكريين ومسؤولين كبار في الإدارة الأمريكية وبما يمنعها من مواصلة غطرستها وسياساتها العدوانية ضد الحكومات والشعوب الأخرى وصولاً إلى مآربها في هذا الإطار.
إن التهديد غير المسبوق الذي شنّته أمريكا على لسان مستشار الأمن القومي الجمهوري المتطرف "جون بولتون" ضد قضاة المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العامين بتنفيذ سلسلة من الإجراءات المحتملة من بينها عقوبات تستهدف هؤلاء العاملين في المحكمة، خير دليل على هاجس الخوف الذي يعيشه البيت الأبيض إزاء نتائج التحقيق الذي يحتمل أن تفصح به المحكمة بشأن الوضع الأمني والإنساني في أفغانستان على مرّ السنوات الماضية حيث جرائم الحرب التي مورست على أيدي عسكريين أمريكيين في هذا البلد.
الحرب والعدوان الأمريكي ضد أفغانستان خلّف عشرات الضحايا والإصابات والأضرار داخل البنى التحتية، وبحسب التقارير ذات الصلة فقد بلغ حجم الأضرار بين صفوف العسكريين 15 ألف شخص فيما قتل 20 ألفاً من المدنيين العزل خلال السنوات المديدة من الحرب في هذا البلد.
وتؤكد الوثائق في الصعيد نفسه، أن أفغانستان تحوّلت اليوم وعقب العدوان الأمريكي عليها إلى خرابة وهي تزداد انفلاتاً وفوضى عقب تعزيز نشاطات جماعة داعش الإرهابية فيها، الأمر الذي يظهر أسباب خوف واشنطن من نتائج التحقيقات المرتقبة للمحكمة الجنائية الدولية بهذا الشأن.