الوقت- لقد خلق قانون "الدولة القومية للشعب اليهودي" الذي أقرّه الكيان الصهيوني في 19 يوليو 2018 موجة كبيرة من الاعتراضات على الصعيدين المحلي والأجنبي للسلطات السياسية في تل أبيب، وقد اعتبر العديد من القادة والمحللين السياسيين "هذا القانون" تمييزاً سياسياً - عنصرياً يتجاهل حقوق غير اليهود في الأراضي المحتلة، وعلى مستوى آخر فقد أطاح تشريع قانون "الدولة القومية للشعب اليهودي" بحلم بعض الشخصيات السياسية الفلسطينية والزعماء العرب الذين كانوا يطمحون للتعاون وتحقيق السلام مع الكيان الصهيوني، كَون هذا القانون جعل من مشروع قيام دولتين أمراً مستحيلاً.
وقد أثارت تبعات هذا القانون والآثار التي يمكن أن تترتب على قضية المسلمين الفلسطينيين، قلق الدول الإسلامية على مستوى العالم، ونتيجة لذلك كانت هناك معارضة واضحة من معظم الدول الإسلامية تجاه القرار. وفي هذه الأثناء أعلنت الحكومة التركية المعروفة بعلاقاتها الجيدة مع الكيان الصهيوني على مدى العقود الماضية عن معارضتها الشديدة للمشروع، حيث أدانت تركيا منذ البداية قانون "الدولة القومية للشعب اليهودي"، وبعد مرور أسبوع واحد من القرار اعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان القانون "فاشية صهيونية" وذلك خلال تصريحات له.
وقال أردوغان منتقداً بشدة القانون المثير للجدل: "إن روح هتلر تتجسد لدى بعض قادة الكيان الصهيوني" مؤكداً أنه لا يوجد فرق بين فهم هتلر والمسؤولين الإسرائيليين لقضية أفضلية الأعراق على بعضها، كما أكد أردوغان أن الكيان الصهيوني أظهر أنه دولة إرهابية من خلال الهجمات المدفعية والدبابات، مضيفاً: "لا شك أن إسرائيل هي أكثر الحكومات صهيونيةً وفاشيةً وعنصريةً في العالم"، وبدوره قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالرد بشكل فوري على تصريحات أردوغان الحادة، وقال نتنياهو ردّاً على أردوغان: "إن أردوغان يقتل السوريين والأكراد ويسجن الآلاف من أبناء شعبه في سجون البلاد، لذلك فإن انتقاد هذا الديموقراطي العظيم لـ"الدولة القومية للشعب اليهودي" هو أكبر مديح وإطراء للقانون".
أما في الوقت الراهن وفي ضوء هذه التصريحات المثيرة للجدل، فإن الاستدلال الرئيسي في هذا المقال، هو أنه على النقيض من بعض الادعاءات القائلة بأن معارضة تركيا لـ "إسرائيل" كانت ظاهرية لا أكثر وإنهما حليفان استراتيجيان، لكن الوضع الجديد، وتحديداً بعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في 14 مايو 2018، تُثبت بوضوح أن الخلافات والصراعات بين أنقرة وتل أبيب كانت عميقة وهي في ازدياد يوماً بعد يوم.
الشرخ المُكرّس بين أنقرة وتل أبيب أبعد من النزاع الفردي
تشير النبرة الخطابية لأردوغان ونتنياهو إلى حقيقة أن الاختلافات الأخيرة بين تركيا والكيان الصهيوني هي فردية في طبيعتها ويمكن تحليلها في البعد النفسي لأردوغان الإسلامي مع نتنياهو الراديكالي، لكن الجانب الآخر في هذا الموضوع، هو أنه إذا تغير هؤلاء القادة السياسيون فإن الاختلافات بين الجانبين سوف تتضاءل وسنرى عودة إلى العلاقات الثنائية السابقة لكن الحقيقة هي أنه من الممكن تقييم الصراع استراتيجياً وميتافيزيقاياً، ويمكننا ذكر ثلاثة أسباب مهمة إثباتاً لهذا الادعاء:
1- استراتيجية الكيان الصهيوني لإضعاف وتفكيك قدرات غرب آسيا: يمكن رؤية السبب الأول والأكبر للخلاف العميق والحقيقي بين أنقرة وتل أبيب، هو فيما يتعلق بالكشف عن خطة الكيان الصهيوني لإضعاف وتفكيك قدرات غرب آسيا، في حين أن دعم تل أبيب لاستقلال إقليم كردستان العراق، ودعم حزب العمال الكردستاني الإرهابي "PKK" في التمويل والتسليح، ودعم تقسيم تركيا سرياً، ومحاولة تنفيذ مشروع "إسرائيل الكبرى" من خلال بدء السيطرة الكاملة على القدس، أوصلت الساسة الأتراك إلى قناعة مفادها أن تل أبيب عدوة لمصالح البلاد وليس من الممكن التحالف والتعاون معها، وهذا لا يخصّ فقط حزب العدالة والتنمية، بل جميع التيارات السياسية التركية قد أدركت هذا النهج.
2- تكريس فجوة الهوية: البُعد الآخر الذي يشير إلى تكريس الفجوات بين الكيان الصهيوني وتركيا، هو فيما يتعلق بالهوية الإسلامية لتركيا، والحقيقة أن مجيء حزب العدالة والتنمية وصعود الحركة الإسلامية في هذا البلد، يشير إلى حقيقة رغبة الناخبين الأتراك عامة بهذا الحزب، والحقيقة أن العقود الماضية من علاقات تركيا مع الكيان الصهيوني كانت قائمة نتيجة لإرادة العسكر والسياسيين العلمانيين، حيث لم يعد بالإمكان تجاهل أسس الهوية البارزة بعد ترسيخ قدرة الإسلاميين في السياسة وانبثاق الروح الإسلامية في القطاعات الاجتماعية التركية من خلال العملية الديمقراطية. ويشير هذا إلى أنه في ظل أي ظرف من الظروف في التطورات المستقبلية لتركيا حتى في حال فشل حزب العدالة والتنمية، سيكون هناك توتر حقيقي ومُكرّس بين أنقرة وتل أبيب وهو في تزايد.
3- اللوبي الصهيوني الملموس ضد تركيا: يمكن اعتبار المحاولات الملموسة التي تقوم بها اللوبيات الصهيونية على مستوى عالمي وخاصة في أمريكا لمعارضة تركيا رمزاً آخر للخلافات المُكرّسة بين تركيا والكيان الصهيوني، فعلى مدى السنوات القليلة الماضية كان الصهاينة يستهدفون المصالح الوطنية لتركيا على مستوى عالمي من خلال مختلف الوسائل، ويمكن اعتبار مجريات الأشهر الماضية كالتصويت على مشروع قرار يعترف بـ"الإبادة الجماعية للأرمن" في 24 مايو 2018 في الكنيست (البرلمان الصهيوني)، فضلاً عن فرض ضغوط على حكومة أمريكا والكونغرس لرفض تسليم مقاتلات إف-35 لتركيا، من نماذج اللوبي الصهيوني ضد تركيا، وقد أدّى هذا المستوى من اللوبي الصهيوني المعادي لتركيا إلى تطوّر المشهد بينهما بحيث يمكن توقّع المزيد من التوترات بين الجانبين حتى على المدى القصير.