الوقت- اتسمت العلاقات العراقية السعودية بالاضطراب والتوتر منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وازداد التصعيد بين البلدين وأخذ منحىً نارياً بتبادل الاتهامات علناً، بعد اتهام بغداد للرياض بتغذية "الصراع الطائفي" وزعزعة الوضع الأمني العراقي في ظل العمليات الانتحارية التي طالت الأبرياء من المدنيين في المناطق السكنية والأحياء التجارية، وبعد أن رصد الأمن العراقي دخول نحو ستين بالمئة من الانتحاريين إلى العراق من الأراضي السعودية وبدعم منها ومن نتاجات المدرسة السلفية داخلها، كل هذا لم يفتح باباً للحوار ولا منفذاً دبلوماسياً بين البلدين.
فلم تر السعودية مصلحة في الاقتراب من بغداد وبقيت محافظة على نهج عدائها للوجوه العراقية ما بعد 2003، واستمرت الأجواء الساخنة بين البلدين وزادت الأزمة تأزماً منذ دخول "داعش" إلى الأراضي العراقية، عندما وجّهت الحكومة العراقية سلسلة اتهامات صريحة للرياض في 17 من حزيران عام 2014 بتقديم الدعم المادي للجماعات الإرهابية وحمّلتها مسؤولية "جرائم الإبادة الجماعية" التي اقترفها المسلحون في العراق، معتبرة الموقف السعودي من الأحداث مهادنة ودعماً للإرهاب وللمجازر الحاصلة في العراق.
وقبيل النصر العراقي على "داعش" بفضل القوات الأمنية والحشد الشعبي وانهيار المجموعات الإرهابية في المناطق الغربية، بدأت ملامح الرياض تتغير شيئاً فشيئاً نحو إعادة صياغة استراتيجية جديدة، متخذة تكتيكاً مغايراً لسياساتها إزاء بغداد، رغم أن الأخيرة تدرك حجم الكارثة التي حلّت بالعراقيين جراء السياسات السعودية وما كلفتها من فاتورة نفيسة تجلت بدماء خيرة أبنائها وخيرات بلادها لكنها لم تبخل بقبول دعوة الرياض لفتح صفحة جديدة معها، إيماناً بتذليل كل العقبات إزاء الانفتاح على الجوار العربي المرتبط ارتباطاً مباشراً ومشتركاً في مساحة واحدة مع العراقيين.
دخلت السعودية إلى الأراضي العراقية بزيّ جديد وبجيبين مليئين بالأموال وبوعود استثمارية على صعد شتى، وبتبادلات تجارية لا متناهية تحديداً بعد إعادة فتح معبر "عرعر" بين البلدين.
بدا واضحاً أن الرياض بدأت تحيك سياستها في الجسد العراقي بأنغام اقتصادية، وتدرك السعودية أن أنغامها ستطرب حكام بغداد ولا سيما أنهم يمرون بأزمات اقتصادية قاسية بعد الحرب على "داعش".
وإذا ما اُعتبر الاقتصاد وجهاً آخر للسياسة، إلا أنه في صلبها، وفي مرحلة مصيرية يقف العراق على أعتابها، وهي الانتخابات البرلمانية المرتقبة، حيث لا يمكن للعقل السعودي أن يقف عاجزاً أمام مصالحه الاقتصادية من المتغيرات هذه، فهو يهدف إلى إعادة صياغة الديمقراطية العراقية حسب مقاساته، الديمقراطية التي أعتبرت عربياً "خطراً سرطانياً" ينهش بلادهم عاجلاً أم آجلاً بعد دخولها بغداد التي ستشكل نقطة تحول مصيري لعروشهم المتوارثة في الحكم منذ عقود.
لا يزال النفس الطائفي يطغى على السياسة السعودية، فالانفتاح الأخير لم يكن مبادرة أولى إنما جاء بعد خطوة عودة الدبلوماسية ما بين البلدين عام 2015 عندما عينت "ثامر السبهان" سفيراً لها لدى بغداد، وسرعان ما وجهت له أصابع الاتهام بالتدخل في الشؤون العراقية الداخلية واللعب على الوتر الطائفي، اتهامات أودت إلى قطع تلك العلاقات مرة أخرى في يناير كانون الثاني 2016.
ما تزال الشكوك حاضرة لدى الساسة العراقيين إزاء دور الرياض، رغم المتغيرات الجارية نحو بغداد، فالاخيرة ترصد التحركات السعودية الإقليمية وعلى رأسها في سوريا واليمن وكذلك تمددها في العلن نحو تل أبيب وإعلان شراكاتها السياسية الساعية للوقوف بوجه ايران، كل هذا بات دليلا بلا تردد على أن نهج الرياض لم يتغير عما كان عليه في السابق، انما هو تغيير مؤقت يهدف الى التلاعب بالخارطة السياسية العراقية المرتقبة وهي تقف على أعتاب مرحلة انتخابية حساسة وهامة، وهي التي خسرت فيما مضى كل أوراقها في العراق وفشلت مخططاتها في تأجيج الطائفية ودعم المنطقة الغربية (السنة) وملف داعش وما سبقه.
شكوك عراقية ومخاوف من أن السياسة السعودية الاقتصادية الجارية في العراق تهدف الى جذب بغداد نحو محورها العدائي للمقاومة تحت مسمى العروبة في مواجهة طهران، ومنها انخراط العراق في مستنقع الازمات الإقليمية وتطوراتها.
وان تتفق الوجوه العراقية على التشكيك بسياسة الرياض، الا أن البعض منها عرف بنهجه المعتدل ازاءها، كرئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي وسلكه الدبلوماسي، الذي سار بخطوات متوازنة لاتخلو من حذر في الانفتاح على السعودية، وجبهة ترى أن الانفتاح على السعودية بما تحمله من فكر وهابي أنتج الإرهاب بعد أن استشرى في جسدها وتصدره للمنطقة والعالم، بحاجة الى اثبات نواياها، وعليه لا تؤمن بالعلاقات معها اطلاقا اذا ما عادت صياغة عقليتها قلبا وقالبا.!
من هنا لا تزال الشكوك تراود الشارع العراقي الذي دفع ثمن الخيانات الإقليمية ولايزال على طاولة المصالح ... وللصناديق كلمة الفصل.!