الوقت-إنهم همباتة السودان، (الهمباتة) تعني نهب وسلب الإبل دون سواها، والهمباتة هم الرجال الذين يمارسون عملية نهب الإبل، ومفردهم همباتي واللفظ مأخوذ من لهجة عرب غرب السودان.
ثمة تصور فلسفي كان يردده كارل ماركس "إن مفهوم البنية الفوقية لمجتمع ما يستدعي بالضرورة استحالة تغيير الأشخاص وأفكارهم الداخلية دون تغيير في القواعد الاجتماعية التي تحدد سلفاً فكر ذلك المجتمع، الأمر الذي يحتم تغيير التنظيم الاجتماعي الذي يعيش فيه الأفراد لأنهم مجرد جزء من المواد الواجب تنظيمها، فلا يمكن أن يظهر فكر جديد إلا من خلال نظام جديد للحياة".
إذا ما أردنا أن نسرد قصة قبائل السودان التي أثارت اهتمام القاصي والداني وألهمت جلّ من عرفها، علينا أن نمر على تلك الرؤية الاجتماعية لـ"ماركس".
يؤكد الباحث السوداني "آدم عزام" المهتم بجمع الشعر الهمباتي ونشره، إن لفظ "الهمباتي" خرج في البداية من غرب السودان أما في الشرق والوسط والعرب البدو فيطلقون عليه "المهاجر" أو "النهاد".
ويطلق "المهاجر" أو "الهمباتي" على الشخص الذي يحصل على إبل الأغنياء بقوة السلاح ويعطيه للفقير المحتاج.
إلا أن الهمباتة يختلفون عن اللصوص الآخرين، حيث إن معظمهم من أسر كريمة وليسوا فقراء، كما أنهم يسرقون كما يقول شاعر الهمباتة "عبد الله الدكيم" لسببين: الأول إعطاء الفقير الذي لا يرعاه الغني، حيث يأخذون مال الغني بالقوة ويعطونه للفقراء، والأمر الثاني هو من أجل الرجل الفقير الذي يريد الزواج من بنت عمّه ويرفضه أهلها لفقره، فيسرقون ويعطونه المال ليستطيع الزواج ممن يحب كي لا يتزوجها الغني الغريب.
تقوم حياة الهمباتي على المغامرة، فهو يعيش أغلب حياته في الجبال، حياة مهددة باستمرار ربما لتعرضها للخطر أو الموت.
كما يحرص الهمباتة على أن يظهروا مميزين بملابس جذابة نظيفة، ويتميزون باقتنائهم أفضل الجمال، ولا يتنازلون عن حمل السلاح دفاعاً عن أنفسهم، كما يسعون لأن يكونوا محل احترام وتقدير المجتمع على حد وصفهم.
ويقول الدكتور "شرف الدين أحمد" المتخصص في الفن الشعبي السوداني بكتابة "الهمباتة" إنهم يختلفون عن اللصوص الآخرين في أن معظمهم من أنساب محترمة، بينما كان أغلب الصعاليك الذين يشبّهون بهم، جماعة فقراء من قبائل شتى جمعت بينهم الحاجة إلى مال الغير، فخرجوا على قبائلهم وتحللوا من نظمها فأنكرهم قومهم.
تنتشر ظاهرة الهمباتة في شمال السودان وشرقه وجنوبه وفي شمال كردفان وعلى تخوف في دارفور. ورغم اختلاف اسمها من مكان لآخر غير أن القاسم المشترك بين كل الهمباتة هو الجمل الذي يستخدم للسير في دروب الصحراء.
(لنا في مرابعكم كمين .. ولنا في مراتعكم معين .. للسائل والمسكين .. نحن الهمباتة ولنا فيها ناقة وجمل) هكذا عبّر شعراء الهمباتة عن التنافس والافتخار فيما بينهم بالجمال والسلاح والقوة والقدرة على السطو والهمبتة، كما يتغنى شعراء الهمباتة بسحر الطبيعة في البادية وحياة الحل والترحال.
يعتقد "الهمباتة" أنهم يعيشون في تحدٍّ دائم، لأنهم قرروا السير في هذا الطريق، فهم مطلوبون على الدوام من قبل أجهزة الأمن، هذا ما يقوله الشاعر السوداني "الدكيم" ويضيف "ويكفينا أن تقدرنا الطبقات الفقيرة في المجتمع"
كتاب "رد الافتراء" يروي شجاعة وقوة الهمباتي وفي نفس الوقت يتناول الرضى الشعبي الذي كان يحظى به من قبل مجتمعه، ويسجل المؤرخ "أحمد عبد الرحيم الشريف" صاحب الكتاب، أن نهاية الدولة السينارية ودخول محمد علي باشا إلى السودان قلّلت نسبياً من ظاهرة "الهمبتة" في المدن بينما بقيت في البوادي. ومع دخول الحكومة الوطنية عام 1956 رفض المجتمع السوداني بقوة ظاهرة الهمبتة، حيث يفسر البعض ذلك بانتهاء المبررات التاريخية والسياسية التي دفعت إلى ظهورها وشعبيتها في المقام الأول. ومع مجيء الرئيس السوداني "عمر البشير" عام 1989 بدأت تختفي ظاهرة الهمبتة تماماً، بعد أن وضعت قوانين بحق السرقة والنهب بعقوبات تصل حد الإعدام.
الهمباتة هم مغامرون إذن، يقضون ظلماتهم في السرقة والإغارة من أجل الفقراء، وكان للشعر نصيب كبير من حياتهم، حتى إنه استطاع أن يعكس واقعهم، هذا إلى كل من يود معرفة تفاصيل عيشهم عن قرب وعبر ألسنتهم لا كما يروّج لها.