الوقت- تُرخي الأزمة الكوريّة بظلالها على المشهد الدولي. فبعد وصول المشهد العالمي قبل فترة إلى مرحلة ما قبل الغليان النووي التي انتهت باعتراف واشنطن بأن حاملة الطائرات التي أرسلتها إلى المنطقة ذهبت إلى الاتجاه المعاكس، تكرّر مشهد الغليان النووي مجدداً لينتهي مجدّداً بتراجع أمريكي واضح.
لسنا من مريدي الرئيس الكوري كيم جونغ اون، وبالتأكيد لسنا من مؤيدي ترامب ولا أسلافه، إلا أن درس الأزمة الكورية، وطريقة التعاطي الأمريكي معها، تؤكد حقيقة واضحة مفادها التراجع الأمريكي عندما يعامله الطرف المقابل بالمثل. فبعد التهديدات المتبادلة بين ترامب المتهوّر وكيم الطفل، أكد وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون أن بلاده لا تزال مستعدة لإجراء حوار محتمل مع كوريا الشمالية التي تراجعت عن تنفيذ خطتها بإطلاق صواريخ قرب جزيرة غوام الأمريكية. وأضاف تيلرسون: "لا نزال مهتمين بالسعي إلى طريق يقود إلى الحوار، لكن هذا الأمر رهن به" في إشارة إلى الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون.
تأتي إشارة نيلرسون بعد مقال كتبه وزيرا الدفاع الأميركي جيمس ماتيس والخارجية ريكس تيلرسون ونشرته صحيفة "وول ستريت جورنال"، أكدا فيه أن "لا مصلحة" للولايات المتحدة بتغيير النظام في بيونغ يانغ. وزير الدفاع ساق الأمر إلى أبعد من ذلك، قائلاً : "سندافع عن بلدنا في مواجهة أي هجوم، في أي وقت ومن أي جهة أتى"، مشدداً على أن "لأمور الجدية ستبدأ" إذا ما نفذت بيونغ يانغ وعيدها بضرب أمريكا. كلام تيلسون يحمل رسالة واضحة للنظام الكوري بإيجاد فتحة حوار، في حين أن كلام الوزيرين وتحديداً وزير الدفاع يهدف لإيجاد أرضيّة للحوار مع النظام الكوري أمام الشعب الأمريكي. لا يمكن للإدارة الأمريكي التي توعّدت كوريا مراراً وتكراراً أن تعمد إلى الانتقال سريعاً لأي حوار أو مفاوضات، بل يحتاج الأمر إلى إيجاد أرضية مناسبة أمام الشعب الأمريكي.
غريب هو أمر أمريكا التي ربطت الأزمة بصواريخ جزيرة غوام، ورغم أن الزعيم الكوري الشمالي قد هدّد باستهدافها لكنّه جمّد تنفيذ خطة إطلاق الصواريخ باتجاه المياه القريبة من غوام، محذّراً من أنه سيقدم على هذه الخطوة الاستفزازية رداً على أي "عمل متهور" جديد لواشنطن، إلا أن واقع الخلاف هو أبعد من غوام بكثير. ألم يتوعد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب نظام بيونغ يانغ بـ"نار وغضب لم يشهد العالم لهما مثيلاً"، رداً على التجربتين الصاروخيتين، لتواجه بيونغ يانغ التهديد الأمريكي بخطة إطلاق صواريخ في المياه المحيطة بغوام؟
ولعل ربط الأزمة اليوم بجزيرة غوام بعد الأزمة المتنامية، والتي أججتها التصريحات النارية بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب والزعيم الكوري الشمالي، يعدّ تراجعاً أمريكياً واضحاً أمام كوريا التي لم تترك أي فسحة للتراجع، بل عمدت إلى استخدام سياسة "الرطل يحتاج إلى رطلين" من التهديدات.
اليوم، تحاول واشنطن استغلال تصريحات كيم جونغ بغية خفض التصعيد، وسوقها نحو فتح نافذة للحوار ظهرت معالمها بوضوح في كلام تيلرسون، خاصّة أنّ الإدارة الأمريكية أدركت أن بكين رغم تأييدها للعقوبات الأخيرة، لن تسكت عن محاولات إسقاط النظام الكوري. الصين التي وافقت على قرار لمجلس الأمن الذي تمّ عليه التصويت بالإجماع لفرض عقوبات على كوريا الشمالية بسبب تجارب إطلاق صواريخ عابرة للقارات، عادت لتؤكد عبر أذرعها الإعلاميّة بأنه "ما إن توجه واشنطن وسيول صواريخهما إلى كوريا الديمقراطية، رغبةً في إسقاط النظام الكوري الشمالي القائم، فإن الصين سوف تفعل كل شيء لمنع ذلك". وتضيف: بكين ستدافع عن بيونغ يانغ بكل الوسائل بما فيها العسكرية منها، ولا حاجة إلى التذكير بأن الصين تصرفت كذلك في الأعوام ما بين 1950-1953 ضد أمريكا دفاعا عن كوريا الشمالية.
إذاً، إن هدف واشنطن الرئيسي يتمثّل في إعادة كوريا إلى طاولة المفاوضات حول ملفّها النووي والمفاوضات السداسيّة مع كوريا الجنوبية واليابان وروسيا والولايات المتحدة والصين والتي انتهت في العام 2009 بالفشل رغم أنّها استمرت لست سنوات متقطّعة. إلا أن مضاعفة النظام الكوري إطلاقه للصواريخ البالستيّة، وإجراءه عدّة تجارب نووية منها تجربتان في 2016، ووقوف النظام أمام التهديدات والتحرّكات الأمريكية في شرق آسياً، بل محاولته أخذ زمام المبادرة، سيسوق أي مفاوضات بمنحى مختلف عمّا تريده واشنطن عبر مقايضة وفرض قيود متبادلة بين الطرفين حول المناورات الأمريكية من جهة، وتجارب اطلاق الصواريخ من جهة أخرى. يبدو أن واشنطن ستحدّ من إصرارها مع كوريا الجنوبية على أن مناوراتهما المشتركة دفاعية، والدخول بشكل مبدأي في هذه المفاوضات التي ستكون بوابةً لمفاوضات لاحقةً، خاصّة أن الزعيم الكوري الجديد الذي وصل إلى الحكم بعد إعلان وفاة والده كم جونغ إل في ديسمبر 2011، لم يخض أي تجربة مفاوضات حتّى الساعة.
يبدو أن كيم جونغ خرج فائزاً على ترامب في هذه الجولة أيضاً، سواءً بسبب امتلاكه هامشاً للمناورة أوسع نسبياً مما يملكه الرئيس الأمريكي، أو بسبب وقوفه بصلابة أمام التهديدات الأمريكية التي أثبتت أنّها جوفاء، ولكن في حال نجحت أمريكا في جرّ كيم إلى المفاوضات، هل سينجح كيم في إدراة الأزمة مجدّداً مع أمريكا؟