الوقت- لم يكن الحظ مُحالفا لواشنطن خلال الأشهر الأحد عشر الأخيرة فيما يخص التعامل مع ملف كوريا الشمالية. فقد تمكنت بيونغ يانغ خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة من التأكيد للعالم أجمع أنها أقوى وعصية أكثر مما راهنت واشنطن. وكانت سياستها (أي كوريا الشمالية) بسيطة وواضحة تعتمد التصعيد في الموقف والأداء الميداني وقد نجحت فعليا في الظهور بمظهر المنتصر على التهديدات الأمريكية الفارغة التي لم يتحقق منها شيئ وبالمقابل استمرت بيونغ بانغ في تنفيذ تجاربها بشكل مضطرد ودون أي توقف.
بدأ التوتر قبيل التجربة النووية الكورية الشمالية الخامسة والتي أجريت في 9 أيلول سبتمبر من العام الماضي، وذلك بمناسبة العيد الوطني الذي لطالما استغلته بيونغ يانغ لإظهار قوتها وبأسها العسكري. لم تكتفي بيونغ يانغ بهذه التجربة المعلنة التي رصدتها كل من اليابان وأمريكا وآخرين بل أعلنت أنه سيأتي يوم "تصفية الحساب مع الإمبرياليين الأمريكيين".
هذه الخطوة الكورية الشمالية أتت بعد تهديد ووعيد أمريكي فارغ، أما ما بعد التجربة فليس كما ما قبلها، إذ استنفرت واشنطن العالم وبدأت بتهديدها ووعيدها بالعقوبات وبالردود الصاعقة. كلام لم تظهر مفاعيله العملية على الأرض سوى على شاكلة مناورات مشتركة أمريكية مع الجارة الجنوبية. مناورات وتهديدات اعتبرتها بيونغ يانغ مثيرة للضحك.
بقيت الأمور ضمن السيطرة حتى وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فأتت الخطوة الكورية الشمالية على شكل تجربة صاروخية بالستية هدفها بحر اليابان وتزامنا مع زيارة رئيس الوزراء الياباني إلى أمريكا.
فما كان من الأمريكيين إلا التهديد وهذه المرة على لسان الكلب المسعور "جيمس ماتيس" من العاصمة الكورية الجنوبية، حيث توعد برد أمريكي فعال وساحق على أي هجوم ضد أمريكا وحلفائها.
جاء الرد الكوري الشمالي مجددا ففي أوائل آذار الماضي قامت بيونغ يانغ بإطلاق أربع صواريخ بالستية من قبالة السواحل الشرقية لمسافة نحو ألف كيلومتر من قاعدة في منطقة تونجشانج وتزامنا مع مناورات أمريكية كورية جنوبية مشتركة. هذا الأمر ورّط ترامب مجددا بالوعيد برد شديد اتجاه بيونغ يانغ. وعيد لم يرى أحد مفعوله إلى اليوم.
بدت الأمور في حينها وكأن طبول الحرب الأمريكية بدأت تُقرع. فما كان من بيونغ يانغ إلا التهديد بهجمات بلا رحمة على أمريكا وقال الزعيم كيم جونغ أون في حينها سنحول واشنطن إلى رماد.
أكثر من ذلك وقبيل أيام من زيارة ترامب للصين وفي الأسبوع الاول من نيسان أبريل الماضي أجرت بيونغ يانغ تجربة بالستية أخرى في رسالة واضحة ولا لبس فيها. خاصة أن زيارة ترامب كانت تحمل عنوانا أول وهو كبح جماح بيونغ يانغ من خلال الصين.
لم يفهم ترامب حقيقة الوضع وصعوبة الموقف، فاعتقد أن التهديد سيجدي نفعا خاصة أن الصين لم تتجاوب جيدا مع طلباته، فغامر وصرح تصريحا شهيرا اعتبر فيه أن أمريكا مستعدة للتعامل مع الأزمة دون الصين إذا اقتضت الضرورة. كما أنذر بيونغ يانغ باستجرار أسطول "ارمادا" لمواجهتها وهو ما رد عليه الزعيم الكوري الشمالي بالضحك والتوعد بتحويل واشنطن إلى رماد.
بقيت كل الخيارات مطروحة على الطاولة بالنسبة لنائب الرئيس الأمريكي "مايك بنس". هذا الموقف أعلنه بنس من الجارة الجنوبية ومن اليابان دون أن يلتفت أنه والإدارة الأمريكية كلها يغامرون بمصداقيتهم وبحقيقة إمكانية التدخل العسكري في مقابل بيونغ يانغ.
أما بيونغ يانغ فلم تتراجع قيد أنملة بل على العكس هددت الصحف الرسمية في كوريا الشمالية واشنطن بـ"ضربة وقائية مهولة" وتحويل أمريكا إلى رماد. وفي خطوة متقدمة أخرى هددت أستراليا الحليفة لأمريكا بسبب انتقادات وجهها وزير خارجيتها للملف النووي الكوري الشمالي. كما أعربت عن استعداد القوات الكورية لتدمير حاملة الطائرات الأمريكية كارل فينسون المرابطة مقابل سواحلها لإظهار البأس العسكري الكوري الشمالي.
إضافة إلى استراليا هددت بيونغ يانغ الكيان الإسرائيلي بعقاب بلا رحمة وبعقوبة مضاعفة ألف مرة لما سمته "إيذاء كرامة القيادة العليا"، أيضا يأتي هذا التهديد في سياق توجيه الرسائل لأمريكا وحلفائها وكان لهذا التهديد أثره في الداخل الإسرائيلي الذي وبخ وزير دفاعه الذي تناول الزعيم الكوري بكلام سيئ.
مسلسل التجارب البالستية لم ينتهي ففي 14 أيار مايو أطلقت بيونغ يانغ مجددا صاروخا بالستيا من شمال غرب البلاد. صاروخ رصده أعداء بيونغ يانغ ولم يستطيعوا تحديد هويته. صاروخ قال محللون عسكريون أن مداه يصل لهاواي الأمريكية ويمكن له حمل رؤوس نووية. تبعه تجربة أخرى بعد أسبوع لصاروخ يتفوق على الأول تقنيا وفي المدى.
أيضا هذه المرة الرد الأمريكي اقتضى على الادانة وإرسال بضعة سفن أخرى إلى المحيط الهادئ.
مجددا في أوائل تموز يوليو تجربة أخرى، والرد الأمريكي هو هو، حيث أكد ترامب على هامش ملتقى دول العشرين في هامبورغ الألمانية على ضرورة مضاعفة الضغوط الاقتصادية والعسكرية على كوريا الشمالية. وكأن ترامب اقتنع بعدم إمكانية وجدوى التهديد بعمل عسكري ضد عدوته التي لم توقف تجاربها بل زادت من وتيرتها.
التجربة الأخيرة كانت منذ أيام، حيث وبحضور كيم جونغ اون تم إطلاق صاروخ بالستي الجمعة الماضية عابر للقارات. أكد بعدها جونغ أون أن كوريا باتت قادرة على ضرب أي مكان وفي أي وقت تريد. مضيفا "إن أراضي أمريكا باتت بكاملها في مرمى صواريخ بيونغ يانغ". وهذا الأمر أكده محللون عسكريون أمريكيون ويبدو أن الإدارة الأمريكية بدأت تتقبل هذا الأمر حيث أن مستوى الرد والاستفزاز بات أقل. رغم أن الأمريكيين اعلنوا عن أن طائراتهم جالت فوق شبه الجزيرة الكورية إلا أن التقارير تؤكد أن الأمريكيين لم يعودوا يفكرون بالمواجهة بل يسعون لتخفيف التوتر للخروج من المأزق الذي ورطوا أنفسهم فيه.