الوقت- لم تكن الإنتخابات الفرنسية محطة للجدل حول أهلية المرشحين فقط. بل إن الخلاف فيما بينهم والتناقض في مقاربة السياسات المحلية والدولية، وما عكسته نتائج الدورة الأولى من الإنتخابات الفرنسية وردة الفعل الدولية تجاهها، دلَّت على حجم الإختلاف داخل المجتمع الفرنسي خصوصاً والأوروبي عموماً. في وقتٍ يبدو فيه واضحاً سقوط الهوية الأوروبية، على حساب المصالح الوطنية لكل دولة. فالآثار التي أحدثتها توجهات الدول الغربية كأمريكا وبريطانيا نحو بيتها الداخلي، أحيت عند العديد من المجتمعات الأوروبية حسَّ التغيير، بعد أن لَمست هذه المجتمعات نفاق المسؤوليين وفشل سياساتهم. فكيف أظهرت الإنتخابات الفرنسية هشاشة المنظومة الأوروبية؟ وهل بدأت الثورة على الهوية الأوروبية الجامعة؟
بينَ مَن يتم التنافس اليوم؟
ستجري الدورة الثانية من الإنتخابات الفرنسية في 7 أيار بين مرشحين يحملون خيارات متناقضة، مما يمكن اعتباره بالنتيجة دلالة على حجم التناقض الذي يعيشه المجتمع الفرنسي. حيث:
أولاً: يُعبِّر المرشح "إيمانويل ماكرون" عن توجهات فرنسا التقليدية القائمة على الإنفتاح والليبرالية ومواجهة خطر الفكر القومي الذي تُمثله لوبان. مع وجود توجهٍ واضحٍ بإبقاء فرنسا ضمن إطارها الأوروبي دون الإخلال بمصالحها، والعمل على إيجاد إصلاحات في قوانين العمل والسوق الإقتصادية مع ما يتناسب مع المصلحة الفرنسية. وهو ما تشعر بالإرتياح له العديد من الدول الأوروبية.
ثانياً: تُعبِّر المرشحة لوبان عن الخيار المُتشدد الثائر نحو تغيير الهوية الفرنسية ومحاربة العولمة. وذلك عبر إخراج فرنسا من حاضنتها الأوروبية، والعمل على تعزيز المصلحة الفرنسية على حساب المصالح الأخرى. وذلك عبر فرض قيود على التجارة وإغلاق باب الهجرة ومحاربة الإرهاب الذي تراه لوبان متمثلاً بالمسلمين! الأمر الذي جعل خياراتها محط إنتقادٍ أوروبي لجهة سعيها لصبغ فرنسا بالتطرف، وهو ما يختلف عن النهج السائد فرنسياً وأوروبياً، وسينعكس بنتائج سلبية محلياً ودولياً.
ماذا عكست الإنتخابات فيما يخص توجهات المجتمع الفرنسي؟
أظهرت نتائج الدورة الأولى من الإنتخابات الفرنسية عدة أمور، لها طابع محلي يمتد لأوروبا وصولاً الى العالم، يمكن الإشارة الى أهمها في التالي:
أولاً: بدا واضحاً وجود سعيٍ فرنسي للتغيير والثورة على الواقع السياسي الموجود. حيث يرفض الفرنسيون الطروحات التقليدية الموجودة، وكيفية مقاربة الحكومات السابقة للمصالح الوطنية لا سيما الإقتصاد والسياسة الدولية والحرب على الإرهاب. الأمر الذي يعني وجود سخط إجتماعي تجاه الطبقة السياسية التي كانت تُدير توجهات فرنسا محلياً ودولياً.
ثانياً: لم تكن التوجهات الوسطية ظاهرة في النتائج، بل كانت التوجهات داعمة للتطرف الذي يُديره كل من ماكرون ولوبان. حيث أن التطرف الأول يدعم تنشيط الإقتصاد والغرق أكثر في الإستثمار ضمن الأطار الأوروبي، أما التطرف الثاني والمخالف للأول، يدعم الإنعزال السياسي والإقتصادي لفرنسا.
ثالثاً: بناءاً لنتائج الدورة الأولى، ينقسم الفرنسيون فيما بينهم حول خيارات المرشحين. وهو ما يدل على تناقض يعيشه المجتمع الفرنسي، حيث يوجد إختلاف كبير بين مشاريع المرشحين مما يعني أن نجاح أي مرشح، ووصوله للرئاسة سيضعه أمام تحدي إقناع وجذب قسم كبير من المجتمع الفرنسي الذي سيرفضه نتيجة التعارض المبدأي والبنيوي في الخيارات وليس التعارض الظرفي.
كيف يمكن قراءة تأثيرات العاصفة الفرنسية على الصعيد المحلي والأوروبي؟
عدة دلالات يمكن الخروج بها نُشير لها فيما يلي:
أولاً: إن لنتائج الإنتخابات الفرنسية دلالات عديدة تتعلق بالنظام الأوروبي. حيث أن فرنسا دولة الديمقراطية المعهودة تعيش اليوم حالة من الثورة على التقاليد الحاكمة سياسياً وإجتماعياً على الصعيد الأوروبي وليس الفرنسي فقط، وهو ما يعني بداية التحول والتغيير، الذي يمكن اعتباره نموذجاً لما سيلحق بالدول الأوروبية كافة.
ثانياً: إن مبدأ فتح الحدود بين الدول، ساهم في إيلاء المصلحة الأوروبية الأهمية على حساب مصالح الدول الأعضاء. وهو ما أدى لضرب الإنتماء الوطني للنخب الأوروبية، مما جعل الهوية الأوروبية أقوى من هوية المواطن داخل وطنه. وهو نتاج أيديولوجية العولمة والشركات المتعددة الجنسيات التي اجتاحت أوروبا والعالم وساهمت في إسقاط القيم الوطنية. وكان لليبرالية السياسية بقيادة أمريكا دورها الأساسي في ذلك!
ثالثاً: في ظل التوجه الدولي لا سيما الأمريكي والبريطاني، نحو العودة الى مربع الوطن، والإنطلاق منه نحو العالم والسياسة الدولية، غلبت العقلية القومية على التوجهات السياسة للدول، لتُحيي هذه التوجهات الحس القومي عند الناخب الغربي. حيث يبدو واضحاً ان الناخب الفرنسي يعيش اليوم، تحدياً صعباً بين ضدين، إما البقاء ضمن العقلية الأوروبية المشتركة أو الثورة على هذا التقليد والإستقلال لحساب المصالح الوطنية!
رابعاً: بدا الخيار المُتطرف الذي تقوده بعض النخب الفرنسية شبيهاً بالخيارات المتطرفة لكل من أمريكا ترامب وبريطانيا ماي. خصوصاً لجهة الإصرار على توصيف المسلميين بالإرهاب! وهو ما يعني أن الصفات الناعمة التي كانت تصبغ المجتمعات الغربية على صعيد النخب، سقطت وبان حجم النفاق السياسي والإجتماعي ليس بحق الدول فقد بل بحق شعوب هذه الدول محلياً.
خامساً: إن المستقبل يتنبأ يخيارين لا ثالث لهما على الصعيد الفرنسي والأوروبي. فأياً كانت نتائج الإنتخابات الفرنسية فإن بلد الديموقراطية المعهودة مُقبلٍ إما على الإستقلال عن محيطه الأوروبي والحذو مثل بريطانيا، وهو ما سيضرب من جديدة الوحدة الأوروبية. أو أن فرنسا ستنتخب الإستمرار في الخيارات الحالية المتجانسة مع التوجهات الأوروبية ولكن بأساليب جديدة. بينما في كلتا الحالتين، فإن ما سيحصل يدل على حجم التداعي في المنظومة الأوروبية.
تعيش فرنسا حالةً من التحول المحلي والإقليمي الخاص بها. وهو ما سينسحب على كافة الدول الأوروبية. فالإنتخابات الفرنسية أفرزت نتائج أبعد من محلية. نتائج تتعلق بما ستؤول اليه الأمور على الصعيد المتعلق بالهوية الأوروبية!