الوقت- لطالما ارتبطت شخصية الرؤساء حول العالم بالثروة والحياة التي يمتلكونها، حيث تقفز إلى الذاكرة الثياب الأنيقة والجميلة، والقصور الكبيرة، إضافة إلى السيارات الفخمة، بمجرد ذكر الرؤساء أو النواب والوزراء، لكن من أحد هؤلاء الرؤساء، تم تصنيفه كأفقر رئيس على الإطلاق، هو الرئيس الأورغواي خوسيه موخيكا.
قضى خوسيه موخيكا فترات طويلة من حياته في السجن، لكنه استطاع الوصول إلى سدّة الرئاسة في الأورغواي عام2010، كما استطاع كسب قلوب الناس، حتى صار مثالاً للزهد والإيثار، كما أصبح مضرباً للمثل في الاستقامة من بين كل رؤساء العالم، فمن هو هذا الرجل؟
بائع الزهور
ولد خوسيه ألبيرتو موخيكا موراندو في العشرين من أيار/مايو عام1935، في مونتيفيديو عاصمة الأورغواي، لوالدين فقيرين، والده ديميتري موخيكا، أما والدته هي لوسي كوراندو، التي تنحدر من أصول إيطالية، حيث كانت مهنة العائلة الأساسية هي الزراعة، إلا أن خوسيه بدأ في صباه بيع الزهور في شوارع المدينة، مستهدفاً القادرين من سكانها على شراء الزهور لأمواتهم، أو لأحبتهم، وبقي على هذه الحالة حتى انضم إلى الثوريين في الأورغواي عام1960، ليبدأ رحلة نضال طويلة.
التحاقه بالمنظمة الثورية اليسارية
التحق خوسيه موخيكا بمنظمة تومباروس الثورية اليسارية في شبابه عام1960، حيث كانت هذه الحركة مستوحاة من الثورة الكوبية، أسسها راؤول سنديك، وأيضاً عرفت بمنظمة التحرر الوطنية، التي تهدف إلى مناصر الفقراء، وتحقيق العدالة الاجتماعية، تحت شعار "الكلمات تفرقنا، والعمل يوحدنا"، فكان خوسيه موخيكا من أبرز أعضاء هذه المنظمة الثورية.
اتبعت المنظمة المعروفة بمنظمة التحرر الوطنية الطريقة (الروبن هودية)، حيث قامت بتنظيم سلسلة من عمليات السطو المسلح على البنوك وبعض مؤسسات الدولة، لتقوم بتوزيع المسروقات على الأحياء الفقيرة، كما حاول التنظيم في البداية الحفاظ على صبغته السياسية، بعيداً عن الاصطدام المسلح مع السلطة، لكن رئيس الأرغواي آن ذاك، خورخيه باتشيكو، قام بإصدار أوامره بقمع الاحتجاجات العمالية بالقوة، كما ألغى العديد من الضمانات الدستورية، ثم أطلق حملة للقبض على المعارضين، حيث كان أعضاء منظمة تومبارس من أبرزهم، فلجأت المنظمة بدورها إلى "العنف الثوري"، من خلال تنظيم عمليات الخطف والاغتيال، كما كان خطف السفير البريطاني في الأرغواي جيفري جاكسون من أبرز تلك العمليات، إضافة إلى اغتيال دان متريون وهو عضو في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، الذي ساند حكومة باتشيكو في ممارساتها القمعية.
هروبه من السجن
استطاع موخيكا الهروب من السجن في أيلول/سبتمبر عام1971، بالاشتراك مع مائة مسجون آخرين من المعارضة، باستخدام نفق محفور في منزل قريب من السجن، لكن السلطات أعادت القبض عليه ثانية بعد أقل من شهرٍ واحد، ليعيد الكرة ثانيةً؛ فتمكن من الهروب عبر نفق محفور من خارج السجن مع عدة أعضاء بارزين من الحركة، لكن السلطات أعادت القبض عليه ثانيةً عام1972.
تصدع تنظيم تومبارس مع بداية عام1972، نتيجة انخفاض شعبيته بعد اتباعه الأساليب العنيفة في المقاومة، كما لعب اعتقال قياداته دوراً في ذلك، إضافة إلى قيام المنظمة باستهداف الجيش بشكل مباشر، الذي رد بدوره رداً عسكرياً قاسياً، انتهى بانهيار المنظمة في تشرين الأول/أكتوبر عام1972، مع بقاء أبرز قياداتها قيد الاعتقال في ظروف سيئة، من بينهم خوسيه موخيكا.
أما في عام 1973فقد سيطر الجيش على الأرغواي، فوصل الرئيس خوان ماريا بورد لابيري إلى سدة الرئاسة، حيث قامت السطات بوضع أبرز تسع شخصيات من تومبارس تحت ظروف اعتقال هي الأقسى في السجون، من بينهم خوسيه موخيكا وأيضاً راؤول سنديك وهو مؤسس التنظيم.
"الأصعب في حياته"
يصف خوسيه موخيكا سنوات سجنه أنها "الأصعب في حياته"، فقد قضى 13 سنةً في السجن، من بينها 10 سنوات في السجن الانفرادي، وعامين ضمن حفرة معدة لـ"سقاية الخيل"، حيث يجلس وينام في الوحل، كما لم يكن مسموحاً له لقاء رفاقه في السجن، إلا أنه تمكن من محادثتهم سراً مرات قليلة طيلة فترة سجنه، فتعرض موخيكا لمشاكل صحية عديدة، ناجمة عن ظروف الاعتقال، لكن أجدرها بالذكر، معاناته من وساوس عقلية، حيث أصيب بهلوسات سمعية وبصرية.
وقد بدأت عليه أعراض مرحلة متقدمة من جنون العظمة، لكن هذه الظروف الصعبة التي عاشها جعلته من أن يكون أكثر الرؤساء حول العالم زهداً ومتواضعاً في الحياة، وأكثرهم ابتعاداً عن مظاهر الترف، إضافة إلى كونه أقلهم التزاماً بالبروتوكولات الرئاسية، من حيث الثياب الرسمية، أو توفير وسائل نقل رئاسية، وقصور عظيمة، يتحدث خوسيه موخيكا عما تعلمه من هذه المرحلة من حياته أنه "قضيت عشرة سنوات في الحبس الانفرادي، في حفرة، لكني تعلمتُ أنه لا يمكنك متابعة حياتك مع الضغينة، لا بد أن تتعلم كيف تحمل جراحك وتمضي نحو المستقبل، إذا قضيتُ وقتي ألعق الجراح، فلن أستطيع المضي قدماً، يمكنك دائماً أن ترفع نفسك مرة أخرى ما دمت على قيد الحياة، هذا هو الدرس الأكبر الذي تعلمته".
خروجه من السجن بعد الإعلان عن العفو العام عام 1984
عانت الأرغواي من أزمات اقتصادية وسياسية عديدة تحت وطأة الحكم العسكري، بلغت ذروتها عام1984، حيث عمت الاحتجاجات أرجاء البلاد، ثم تم إعلان الإضراب العام لمدة أربعٍ وعشرين ساعة، ما أجبر الحكومة العسكرية على الدخول بمفوضات مع المعارضة، انتهت بإقرار العسكر بضرورة عودة الحكم المدني إلى الأرغواي.
أجريت الانتخابات العامة في نفس العام، فيصل زعيم المعارضة خوليو ماريا سانغينيتي إلى السلطة، كأول رئيس مدني منذ عام 1973، وقام خلال حكمه بإصلاحات دستورية واقتصادية عاجلة، لإعادة البلاد إلى طبيعتها، والحفاظ على النظام الديموقراطي، وإضافة إلى ذلك أصدر عفواً عاماً عن الجرائم المتعلقة بالصراعات السياسية منذ عام 1962، حيث تمكن خوسيه موخيكا من مغادرة سجنه المنفرد بموجب هذا العفو بعد أن قضى ثلاثة عشرة سنةً في المعتقل.
بعد خروجه من السجن، انضم إلى عدد من قيادات تنظيم تومبارس وإلى تنظيمات أخرى، ليشكلوا فيما بينهم حركة المشاركة الشعبية (MPP)، حيث بدأت هذه الحركة التجهيز لخوض المعارك الانتخابية المرتقبة، بعد عودة البلاد إلى النظام الديموقراطي.
وقد انتخب موخيكا عضواً في البرلمان عام1994، ثم عضواً بمجلس الشيوخ عام1999، حيث لعب دوراً أساسياً في توسيع القاعد الشعبية لحركة (MPP)، من خلال الجاذبية التي تمتع بها، وقربه من الطبقات الفقيرة، التي تشكل النسبة الأكبر من مجتمع الأرغواي.
وتمكنت هذه الحركة من الفوز في الانتخابات الرئاسية للعام 2005، بواسطة مرشحها الرئيس الأسبق تاباري فاسكيز، الذي عيَّن خوسيه موخيكا بمنصب وزير للثروة الحيوانية ومصائد الأسماك، لخبرته في مجال الزراعة وتربية الحيوانات، التي استمدها من مراحل حياته الأولى ضمن عائلته.
ومن ثم استقال موخيكا من منصبه في مجلس الشيوخ، ليتمكن من شغل منصب الوزارة طبقاً للقانون في الأرغواي، حيث استمر في منصبه كوزير حتى تغيير الحكومة عام 2008، فانسحب من الوزارة، وعاد إلى كرسيه في مجلس الشيوخ، كما حافظ عليه حتى انتخابه رئيساً للأرغواي في العام التالي.
نحن لا نحتاج لطائرة رئاسية خاصة
وصل موخيكا إلى سدة الرئاسة في جمهورية الأرغواي، بعد فوزه في انتخابات الإعادة في التاسع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر عام2009، ليتسلم مهامه في الأول من آذار/مارس عام2010، حيث أطلق حملته الانتخابية قريباً من الفقراء، فعرفه الناس لأنه يتحدث بلغتهم، ولا يرتدي ربطة عنق، كما دعا إلى الوحدة الوطنية بين القوى السياسية في أول خطاب ألقاه بعد فوزه في الانتخابات، "لن يكون هناك غالب أو مغلوب، السلطة لا تأتي من فوق، بل تستمد من قلوب الجماهير".
قام خوسيه موخيكا بتعزيز حكومته بوزراء من الأطياف السياسية المختلفة في البلاد، لينفذ بذلك خطوة كبيرة على الصعيد الوطني، وأيضاً قام باتخاذ قرارات جريئة خلال فترة حكمه، اعتمد من خلالها على اليسارية الوسطية، لكن أكثرها إثارة للجدل؛ كان تقنين تعاطي وتجارة المخدرات في الأرغواي عام2013، لمكافحة السوق السوداء، لتوفير ملايين الدولارات من خلال ضبط هذه التجارة، واحتكاراها من قبل الحكومة، إضافة إلى السيطرة على الجرائم المتصلة بتعاطي وتجارة المخدرات، وأقر مجلس النواب السماح بالإجهاض عام2013، ذلك قبل الأسبوع الثاني عشر من الحمل، لتكون الأرغواي أول دولة تسمح بالإجهاض في أميركا اللاتينية، كما كانت الأرغواي ثاني دولة في أميركا اللاتينية تسمح بزواج المثليين جنسياً عام2013، بعد أن سمحت به الأرجنتين عام2010، علماً أن هذه القوانين كانت سيفاً ذو حدين، حيث أنها من جهة محاولة لإلحاق الأرغواي بركب الدول المتقدمة، لكنها من جهة ثانية؛ ساهمت بخسارة موخيكا لجزء كبير من قاعدته الشعبية، إلا أن موخيكا قال إنه "لا يخشى من عدم انتخابه مرة ثانية، حيث أنه لن يخاف من انخفاض مستوى معيشته".
بالإضافة إلى ذلك شهد اقتصاد الأرغواي ازدهاراً ملحوظاً في عهد موخيكا، حيث سجل نمواً ثابتاً في الناتج المحلي الإجمالي ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، كما استطاع تقليص معدلات البطالة في البلاد، من خلال سلسلة من التشريعات الاقتصادية والاجتماعية، وشهد عهده استقراراً في العلاقات مع دول الجوار، وقد استقبلت الأورغواي مائة لاجئ من سوريا، على الرغم من إمكانيات الدولة المحدودة جداً.
لم يستغل موخيكا وصوله إلى الرئاسة لتغيير مستواه المعيشي، إنما حافظ على حياته البسيطة والفقيرة، تكاد تكون الأقرب إلى حياة العامة الفقراء، كما رفض الانتقال إلى العيش في القصر الرئاسي، بل فتح أبواب القصر للمتشردين، وتبرع بمعظم راتبه البالغ 12000$، لصالح المؤسسات الخيرية، وجمعيات دعم المشاريع، فضلاً عن احتفاظه بسيارته الفولكس فاجن موديل بيتل (VW Beetle 1987) المعروفة بالسلحفاة، من جهة أخرى رفض موخيكا شراء طائرة رئاسية، وقال: "الأرغواي دولة فقير، نحن لسنا بحاجة لطائرة رئاسية، لذلك اشترينا طائرة إنقاذ غالية جداً من فرنسا".
رئيس للجمهورية يعمل في مزرعة الأقحوان الصغيرة
تزوج موخيكا من لوسيا توبولانسكي في عام2005، حيث كانت رفيقته في النضال في منظمة تومبارس لسنوات طويلة، كما دخلا معاً إلى مجلس الشيوخ، لكنهما لم ينجبا أطفالاً، وعاشا معاً في بيت لوسيا الريفي المتواضع، في ضواحي مونتفيديو عاصمة الأرغواي، حيث يعملان معاً بزراعة الأقحوان لبيعه، كما أن موخيكا وزوجته لوسيا لم يعتمدا على مرتباتهما طيلة حياتهما، حيث تبرع كلاهما بنسبة كبيرة من معاشهما لصالح الجمعيات الخيرية، ومنظمات دعم المشاريع والشباب.
لم يغير الزوجان مكان سكنهما بعد وصول موخيكا إلى الرئاسة، كما رفضا استخدام حراس الرئيس، حتى أنهما استقبلا ضيوفهم في منزلهم الصغير، في حين اقتصرت ثروة موخيكا على سيارته الفولكس فاجن الزرقاء التي اشتراها عم 2010، بمبلغ 1800$، لتكون هي كل ثروته، كما أنه عرضها للبيع بمبلغ مليون دولار أمريكي عام2014، على أن يتبرع بثمنها لإيواء المشردين، في حين أنه احتفظ بكلبه الأعرج في منزله، لذلك لم تتغير حياة موخيكا بعد وصوله إلى الرئاسة، كما أنها لم تتغير بعد انتهاء ولايته الرئاسية.