الوقت- مرّة جديدة تجري الرياح الشعبية الفلسطينية بما لا تشتهي السفن الإسرائيلية. ابن القدس المحتلّة البار، الشاب فادي القنبر، يسطّر ملحمةً بطوليّة جديدة عبر عمليّة استشهاديّة أدت إلى مقتل وجرح عدد كبير من الجنود الإسرائيليين وفرار عشرات آخرين.
لا شكّ أن ما قبل العملية ليس كما بعدها، ونتنياهو أمام خيارين لا ثالث لهما، إمّا التراجع عن مواقفه وإجراءاته فيما يخص القضيّة الفلسطينية والعودة إلى طاولة المفاوضات، أو المضيّ في إرهابه ضد الشعب الفلسطيني، خاصّة أن الكيان الإسرائيلي هو أساس الإرهاب الذي تعيشه منطقتنا وسبباً لكل المآسي التي تتعرض لها أمتنا العربية والإسلاميّة منذ عقود.
الكيان الإسرائيلي حاول وضع العملية في سياق الإرهاب الداعشي، وهو أمر مردود عليه خاصّة أن الشهيد القنبر استهدف جنودا إسرائيليين مدججين بالأسلحة التي قتلوا بها المدنيين والأطفال في غزّة، هم المسؤولون عن الإعدامات الميدانية لشباب وشابات ثورة السكاكين والحجارة، وهم من أطلقوا النار على شاب أعزل وتركوه ينزف حتى الشهادة، وبدم بارد لا يخلو من الحقد والإرهاب.
لا تهمّنا الانتقادات أو الإدانات التي استهدفت عملية القدس البطوليّة، سواءً الإسرائيلية منها أو التركيّة، واللافت أن دومينو العمليات الاستشهاديّة لم يتوقّف رغم استعانة الجانب الإسرائيلي بشياطين الداخل الفلسطيني والعربي لوقفها، للشاب القنبر، وإخوانه، كلام آخر تجلّت إحدى مظاهره بالأمس، حاملاً جملةً من الرسائل:
أوّلاً: كشفت العملية البطولية في مدينة القدس المحتلة عزّة الشعب الفلسطيني، مقابل الجبن الذي تعيشه ألوية النخبة في الجيش الإسرائيلي، فكيف بغيرهم؟ حقاً إن "إسرائيل" أوهن من بيت العنكبوت.
ثانياً: مرّة جديدة يثبت الشعب الفلسطيني خياره في التعاطي مع الكيان الإسرائيلي، ونتنياهو الذي يتعالى على السلطة الفلسطينية ورباعيتها الدولية التي لم تجلب سوى الخيبة للقضيّة الفلسطينية وشعب الضفة الذي يعاني من الإرهاب العسكري وشعب غزّة الذي يعاني من الإرهاب الاقتصادي. بعبارة أخرى، إن عملية القدس البطولية خير دليل على تمسّك الشعب الفلسطيني بنهج المقاومة كطريق وحيد في سبيل القضيّة، وكل ما يسعى البعض لترويجه عكس ذلك عار عن الصحّة.
ثالثاً: إن عملية الدهس وكافّة العمليات الاستشهادية هي حق، بل واجب في إطار المقاومة الشاملة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولن يدَّخر الشعب الفلسطيني جهداً في تكبيد الكيان الإسرائيلي أفدح الخسائر بمختلف الأساليب والوسائل لتحرير كل أرضه من رجس الاحتلال.
رابعاً: وفي حال أصرّ نتنياهو المدعوم من ترامب على نقل العاصمة إلى القدس، سيكون الوضع "كارثي فظيع"، وفق وصف السفير الأمريكي السابق لدى الکيان الإسرائيلي مارتن إندك، سنكون حينها أمام العشرات من العمليات الاستشهاديّة، وأمام المئات من التحقيقات الإسرائيلية بفرار المئات من جنود الاحتلال أثناء عمليات الدعس، كذلك التقرير الذي فتحه الجيش الإسرائيلي بعد العمليّة الأخيرة.
ثقافة الشهادة
ربّما تنجح السلطات الإسرائيلية في إقناع السلطة الفلسطينية في رام الله بخيار المفاوضات والدخول في بازار "البيع والشراء" على حساب القضيّة، إلا أنّها بالتأكيد لن تفلح في ذلك مع شباب الأقصى والعمليات البطولية وأشرقت قطناني إلى فادي القنبر خير دليل على ذلك، ولكن لماذا كل هذا الإصرار من هؤلاء على العمليات الاستشهاديّة رغم إدراكهم المسبق أن الاحتلال سيمنع العزاء ويطرد عوائلهم وسيقوم بجملة من إجراءات انتقامية بحق العائلة، كما فعلوا اليوم مع الشهيد فادي عبر هدم بيته واعتقال والده وزوجته وشقيقه؟ لماذا يذهبون بعمر الورد ويقدّمون أغلى ما عندهم لإلحاق الخسائر بالكيان الإسرائيلي؟
الإجابة على هذا السؤال تفسّرها الإجراءات الإسرائيلية التعسفيّة من ناحية، وأحقية القضية وعنفوان شعبها من ناحية أخرى.
إن العمليات الاستشهاديّة لم تعد ردود أفعال فردية، بل غدت اليوم ثقافة حياة لجيل جديد نشأ على إنتفاضة الأقصى الأولى. وإذا كان هؤلاء هم من جيل الشهيد محمد الدرّة، فإن الأيام القادمة تبشر بجيل جديد حرقته نيران الرضيع علي دوابشة، جيل سيكون أشد فتكاً بالكيان الإسرائيلي، فكلّما زادت حدّة الإجرام الإسرائيلي، كانت العمليات الاستشهاديّة أشدّ فتكاً.
كذلك، إن الأذى والظلم الذي يتعرّض له هؤلاء الشباب وأهاليهم بشكل شبه يومي من الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، يفسّر هذه العمليات البطولية. هؤلاء الشباب لا يهربون من الموت لطلب الحياة وعيش الذل، بل يستقبلون الموت لقهر العدو، هم مصداق حقيقي للشعار الإسلامي القائل: الموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين.
اذاً العمليات البطولية، التي تؤكد أن الشعب الفلسطيني قد ضاق ذرعاً بالتجاوزات اليوميّة، ليست ثقافة موت كما يروّج البعض بل ثقافة حياة، وهؤلاء لم يقدّموا أرواحهم إلا ليعيش إخوانهم وأبناءهم العيش الكريم الذي يتمنّاه كل شاب وشابّة.
مهما حاول نتنياهو أن يفعل، فالشعب الفلسطيني لن يستسلم، ولن يعترف بدولة الاحتلال، ولن يتنازل عن أيّ شبر من ارض فلسطين التاريخية، فضلاً عن القدس المحتلّة وحرمها الإبراهيمي ومسجدها الأقصى.
بالأمس أشرقت قطناني، وقبلها علاء أبو جمل، واليوم فادي القنبر، وغداً وبعد غد عمليات جديدة تتغيّر أسماء أبطالها إلاّ أن وجهتها وهدفها واحد.