الوقت- تفيض الذاكرة العربية بمشاهد الذين استرزقوا على حساب القضية الفلسطينية وبينهم من باع واشترى بإسمها وفاوض أحياناً على التفريط بالحقوق الفلسطينية سراً وعلانية تحت شعارات الدفاع عنها ورسمت له أدوار وعقدت صفقات التنازل عن الحقوق وقدم وعوداً بتصفية ما تبقى من رمزية للقضية وتبجح بالتشفي من العرب برفع شارات النصر المزعوم عليهم وعلى حقوقهم ووجودهم ومصيرهم... وما تشهده المنطقة حالياً من تنسيق علنيّ بين الرياض وتل أبيب ضدّ القضية الفلسطينيّة، إلا حلقة جديدة في سلسلة من العلاقات التآمرية السريّة بين الكيانين الإسرائيلي الصهيوني والسعودي الوهابي، هدَفه الاستراتيجي تصفية القضيّة الفلسطينيّة.
والمحصلة المؤكدة هي ما نراه اليوم من مكانة القضية الفلسطينية عربياً. إنها في المرتبة الأخيرة، ضمن الاهتمام بالقضية المركزية وتفرغ بعضنا العربي لمشاكله الداخلية وبعضنا الآخر يتفرغ لبحث كيفية معاداة إيران و التخلص مما يسمونه الخطر الإيراني المحدق بنا نحن العرب وأيضاً الخطر المحدق بإسرائيل أو بما تراه العين الصهيونية.
والسؤال الذي يطرح باستمرار: كيف يمكن وضع إيران و الکیان الاسرائیلي في مرتبة واحدة، بل كيف يمكن أن تتحول إيران إلى عدو مشترك و الکیان الاسرائیلي إلى شريك وصديق؟ وإذا كان ثمة من يقول أن ما ينشر في الصحف وأجهزة الإعلام الصهيونية يأتي من قبيل التمنيات فقط فهو واهم: إن ''نتنياهو'' لم يتحدث ويدعو جزافاً. إنه يعرف من يخاطب وكيف يخاطب ولماذا يخاطب دولاً بعينها في الخليج الفارسي...
الواقع العربي المأساوي دفع مؤخراً الحاخام الإسرائيلي ''أفي بن شمعون'' إلى القول: أنه مضى الوقت الذي يسير فيه الإسرائيليين خائفين من جيرانهم بعدما استعرت الصراعات في الشعوب المعادية لـ"إسرائيل" ... وزعم الحاخام أن ما تسمی ب"دولة إسرائيل" أصبحت خلال الخمس سنوات الماضية هي الأقوى والأكثر أمناً، وأصبح جيرانها من العرب يحسدونها على ذلك لأنهم أصبحوا يواجهون صراعات لا مثيل لها. ما قاله الحاخام "الإسرائيلي" ليس كذباً، بل هو تجسيد للواقع العربي المعاش حالياً، فلا توجد دولة عربية مشغولة بالقضية الفلسطينية ولا يعنيها معاناة الشعب الفلسطيني، أما أخبار استشهاد فلسطينيين جدد صارت من الأخبار الروتينية التي تبثها وكالات الأنباء العربية على استحياء، فهناك الأخبار الأكثر سخونة وأهمية واردة من بغداد أو من دمشق أو من صنعاء أو القاهرة!
فما لم نرجع بالصراع إلى أسسه وجذوره لن تهدأ الأوضاع، ولن تنجلي أزمة الأفراد والمجتمعات والسلطات أيضاً، ولذلك تتضافر الجهود الكبرى الخبيثة لطمس أسباب الصراع، وحرفه عن محوره الأساسي أي الصراع العربي الصهيوني باتجاهين، الأول: صراع عربي إيراني، والثاني: ناتج عن الأول صراع عربي عربي، تطوّر إلى صراع داخلي محلي.
فها هي القضية الفلسطينية المركزية تغيب بالتدريج عن شاشات فضائيات التضليل الإعلامي، وبالكاد يستمع المواطن العربي إلى حوار يبيّن ما يجنيه المشروع الصهيوني من اضطراد الراحة والنمو والهدوء، باستثناء فعاليّة الإعلام المقاوم الذي يمرّ تلقيه في مرحلة كمون بسبب سياسات الهيمنة الصهيوأطلسية الرجعية العربية التي طالت الميديا أيضاً، ما يجعل من نشر ثقافة المقاومة واجباً وطنيّاً وعربيّاً وإسلاميّاً.
في مسلسل الصراع العربي ـ الإسرائيلي كان الدور الإيراني حاضراً بقوة ولاعباً رئيسياً لجهة تبني القضية الفلسطينية ودعم الكفاح الفلسطيني ضد الهيمنة والتسلط الإسرائيلي، انتهج خلاله سماحة الإمام الخميني(قدس سره) حتى في فترة ما قبل الثورة الإسلامية في إيران فكراً عقائدياً واستراتيجية مواجهة مع الكيان الصهيوني استطاع من خلالها أن يقود حراكاً جماهيرياً ضد نظام الشاه الذي كان أول المعترفين مع تركيا بالكيان الصهيوني والمتحالف معه بشدة، لدرجة أن العلاقة مع الکیان الاسرائیلي والتنسيق معها والخضوع لإملاءاتها كانت الأسباب الرئيسة والشرارة الفاعلة في انطلاق الثورة الإسلامية وانتصارها في العام 1979.
لقد أضحت القضيّة الفلسطينيّة واجهة إعلاميّة تستخدمها بعض الأنظمة العربية، للتورية على أخطاء وخطايا عند الإعداد لدسائس البدء في تنفيذها بإذكاء نار الفتن الطائفيّة وإثارة مختلف النعرات داخل البلدان العربيّة، لذلك تابعها المحلّلون السياسيّون كُلّما عاد الإعلام إليها وتحرّكت من جديد الرغبات الكاذبة في الدعوة إلى حلّ لها بالتفاوُض المُلزم لطرف دون آخر والتحريض على جلسات تليها جلسات كي يخرج الفلسطينيّون والعرب عامّة بـ"خُفّي حُنين".
اليوم، تهويد القدس، ومحاولات هدم الأقصى، واحتلال الأراضي وتهجير السكان والقتل اليومي، وآلاف المعتقلين الفلسطينيين في سجون العدو والجدار العازل واحتلال الجولان، وذهاب ''نتنياهو'' إلى إفريقيا للتحكم في منابع النيل، وتقسيم السودان، وتدمير ليبيا وإغراق العراق بالدواعش وشذاذ الآفاق واحتلال أراضيه، وحجم ما ذهب من ضحايا، وإبادة اليمن... كل ذلك غير منظور وغير مرئي في أعين الأنظمة الخليجية ولا في سمعها، ولا أبصارها، لا في الحاضر ولا في الماضي، و تشويه صورة إيران، لأنها دعمت ولا تزال تدعم أنبل ظاهرة في التاريخ العربي المعاصر، ظاهرة المقاومة...
وبكل أسف فموقف الأنظمة الخليجية وفي مقدمتها السعودية، موقف غبي لا ينم عن أي قراءة سياسية صحيحة، لمواقف القوى الدولية العظمى والقوى الإقليمية، ولم تستفد قط هذه الأنظمة من الدروس التاريخية القريبة، فقد وضعت كل بيضها كما يقال في سلة الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة، واستطاعت هذه القوى أن تسرق منهم عشرات مليارات الدولارات، ثمن صفقات أسلحة بحجة مواجهة ''الخطر الإيراني''، في الوقت الذي تمد إيران يدها لجيرانها وتعلن على الدوام تمسكها بعلاقات جيدة مع جوارها.
فالدول الخليجية زادت من علاقاتها بأعداء الثورة الإسلامية ولاسيما مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يخفى على أحد علاقة الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية بالكيان الصهيوني والدعم غير المحدود له في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية وغيرها، فهذا العداء للثورة الإسلامية الإيرانية يخدم الكيان الصهيوني بالدرجة الأولى وأعداء العروبة، واستمر هذا العداء منذ قيام الثورة وحتى يومنا هذا، إذ استطاعت الثورة الإسلامية في إيران تحقيق المزيد من الانجازات وفي مختلف المجالات غير آبهة بالتهديدات، إن كانت من القوى الإمبريالية الغربية أو من جيرانها الخليجيين، ومضت في مشروعها الوطني وعبر امتلاكها الإرادة السياسية الحقة، منجزة صناعتها العسكرية بدءاً من طلقة الذخيرة إلى الصواريخ ذات الأبعاد المختلفة إلى البالستية عابرة القارات، إلى صناعة السفن والزوارق والدبابات والطائرات ولاسيما الطائرات من دون طيار، وتماشى ذلك كله مع مضيها في مشروعها النووي الذي تمخّض في النهاية عن توقيعها اتفاق جنيف ٍبينها وبين الغرب، محققة فيه نصراً سياسياً لا أحد يستطيع إنكاره إن كان عدواً أو صديقاً، ومنهية بذلك حالة العداء مع الغرب التي استمرت أكثر من ثلاثة عقود، فاستطاعت من خلال تفاوضها وتمسكها بحقها، وعدم تنازلها عما سمته خطوطاً حمراء، أن تحافظ على منشآتها النووية، وبخاصة أجهزة التخصيب، وأن تنتزع اعترافاً دولياً بأنها قوة إقليمية عظمى.
لقد بقيت المقاومة وصمودها هي مشكلتهم، والخطر الإيراني المزعوم والمفتعل قضيتهم، لقد أهدروا ثروات طائلة، وقدموا كل ما يملكون للغرب الأمريكي، والأوروبي لحماية عروشهم، لكنهم لم يستطيعوا صناعة بندقية واحدة، وهم أغنى من إيران، أكثر من نصف قرن، وهم يسرفون وينفقون، واستطاعت إيران في أقل من عشرين عاماً أن تكون دولة صناعية كبيرة وفضائية ونووية، وأن تمتلك أسباب العلم والتقدم، فيما هم غارقون في لهوهم وكيدهم لكل ما هو قومي، ووطني وأصيل، كانوا داعمين لتدمير العراق، وكانوا داعمين لتدمير ليبيا وكانوا داعمين لتدمير أفغانستان، كانوا ممولين ومساندين لكل ما يهدم أركان العمل القومي من أيام عبد الناصر وما قبل إلى اليوم. أما فلسطين واغتصابها والمقدسات وهدمها، و الكيان الاسرائیلي وطغيانها فليس هذا في واردهم...
لقد نسي هؤلاء أن إيران حقيقة تاريخية جغرافية، وأن ما بينها وبين العرب من أواصر وصلات هي إبنة التاريخ والجغرافية، وأن المصالح المشتركة بيننا كعرب وبين الشعب الإيراني كثيرة مع الرابط الديني أيضاً، أما الكيان الإسرائيلي فكيان غريب وعدواني قام على أشلاء شعب فلسطين وعلى آلامه، وهو كيان يمثل وقد مثل دائماً خطراً وجودياً على أمة العرب كلها بل كذلك على الإسلام والمسلمين أيضاً.
السؤال هو: هل إن من مصلحة العرب معاداة إيران؟ ولماذا؟ بل لمصلحة من حرف الاتجاه وتبديل العدو؟ أين القضية العربية المركزية في فلسطين؟ ألم يعد الكيان الصهيوني يشكل خطراً على الأمن القومي للعرب؟ أليس هو من تطال ذراعه الوطن من مشرقه إلى أقاصي مغربه ويضرب متى شاء حتى في السودان وقبل ذلك في تونس؟
ألم يقل العقل أن نبحث عن الأصدقاء قبل أن نبحث عن الأعداء فإن كانت إيران تقول أنها ضد "إسرائيل"ومع كفاح الشعب الفلسطيني... فلماذا نكذبها ونريدها أن تكون عدوا لنا بدلا من أن تكون في صفنا ضد عدونا المشترك؟
في ميزان العقيدة القومية يبدو ''الثقل'' الإيراني وازناً للغاية وجاثماً بقوة على الصدر الإسرائيلي، يتمسك بحقوقه المشروعة، ويؤمن بأحقية الشعوب في مواجهة الكيان الصهيوني المغتصب لأراضيها ولا يدخر جهداً في توفير وتقديم الدعم المالي واللوجستي لحركات التحرر من هذا الكيان. أما في الدول الخليجية التي تتزعمها مملكة آل سعود، فالنظام السعودي يجد مصلحته مع الكيان الصهيوني، وليس مع أي تحالف يساعده في مواجهة هذا الكيان الغاصب القاتل، الذي شرد شعبنا العربي الفلسطيني من أرضه، ولم يقبل بأي حل عادل لقضية هذا الشعب، وبدل مواجهته والضغط عليه دولياً، يذهب هذا النظام للتحالف معه ويدعو لمؤتمرات أمنية ويستمع فيها إلى خطابات رئيس الكيان الصهيوني مصفقين له، ويسهم بطريقة أو أخرى في شق الصف العربي ودعم كل التنظيمات الإرهابية من قاعدة وغيرها، لتعيث فساداً في الساحة العربية وتسهم في تجزئة المجزأ، وتقدم الصور القاتمة والمشوهة عن العروبة والإسلام إلى الرأي العام العالمي، وتعطي في ذلك المسوّغات للكيان الصهيوني للتمسك بما يسعى إليه ويضغط على الطرف الفلسطيني في مفاوضاته العبثية معه وعلى العرب، للاعتراف ''بيهودية الدولة''، وتنفيذ مخططاته القديمة الجديدة في إقصاء عرب 1948 وفي فرض الحل التعسفي الذي يريده وبتواطؤ أميركي مكشوف، ضارباً عرض الحائط بقرارات الشرعية الدولية كلها.
ومن المؤكد أن هؤلاء الذين صرفوا ويصرفون مئات المليارات للكيد بسورية واليمن والعراق... هم أنفسهم الذين يريدون حرف البوصلة وتحويل الأنظار عن الخطر الصهيوني وعن العدو الصهيوني وهم ماضون في مخططهم العدواني. لقد نسوا فلسطين وأهلها وحقوق شعبها ونسوا خطر إسرائيل المصيري على الأمة وراحوا يبحثون في سبل تدمير الصلات مع الثابت الجغرافي التاريخي لكي يتشبثوا بالمتغير الطارئ على حساب حقوقنا العربية وأمننا القومي وطموحات الأمة العربية.
وأخيراً وليس آخر، إنَّ كلّ إحلال للتناقض العربي الإيراني محلّ الصراع العربي الصهيوني جريمة كبرى على التاريخ والحاضر والمستقبل، وإنّ كلّ من يسهم في هذا الإحلال عميل للمشروع الصهيوني في المنطقة ولذيوله الأمريكيّة والرجعيّة العربيّة والعثمانيّة، وهو في الوقت نفسه عدو لمحور المقاومة والدفاع عن الحقوق والمقدسات، سواء أكان هذا المسهم مثقفاً أم سياسياً أم رجل دين أم حاكماً. فعودة الوعي قريبة، والهوية الوطنية والقومية حتمية تاريخية، فلا يأس، وإنما الخذلان موجة عابرة.
بقلم مصطفى قطبي