الوقت - لطالما إستخدمت أمريكا سياسة "العصا والجزرة" ومع الحلفاء قبل الأعداء، سياسة سمحت لها بتحقيق أهداف ربّما فشلت في تحقيقها عبر القدرة الصلبة، كان أبرزها سورياً، تسليم السلاح الكيميائي السوري وتلفه بعد تهديد الجانب الأمريکي بالتدخل العسكري.
لم تكن حادثة "الأسلحة الكيمائية" وحيدةً في الموقف الأمريكي إزاء الأزمة السورية، بل ساهمت واشنطن قبل فترة بالضغط على الجانب الروسي لوقف العملية العسكرية في مدينة حلب وريفها للجوء إلى المفاوضات التي إستثمرتها الجماعات الإرهابية المسلحة لتثبيت مواقعها العسكرية وتخزين السلاح الذي يمرّ عبر الحدود التركية وبالتالي تغيير قواعد الإشتباك الذي فشلت في تكريسه خلال الهجوم على تلّة العيس، كما أن تصريح وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر، الثلاثاء من مدينة شتوتغارت، أن الحلف الأطلسي يتمسك بسياسة "الأبواب المفتوحة مع روسيا"، لكنه لن يتردد في "الدفاع عن حلفائه إذا ما شنت روسيا عدواناً" يصب في البوتقة نفسها.
لا ريب في أن التصريح الأمريكي يتعلّق بشكل رئيسي بمدينة حلب التي تشهد معارك ضارية بين الجيش السوري وحلفاءه من جهة، والجماعات الإرهابية التي قصفت مستشفى التوليد في "الضبيط" والتي تقع تحت سيطرة الدولة السورية من جهة أخرى ، وهذا ما أعلنه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بالأمس متهماً المعارضة بهذه الجريمة الجديدة.
كارتر تجاهل التفاصيل الميدانية مهدداً بالدفاع عن الحلفاء، فمن هم الحلفاء الذين سيدافع عنهم كارتر أمام روسيا، الجيش السوري أم الأكراد أم تنظيم داعش الإرهابي أم "جيش الفتح" أم بقية الجماعات غير الوازنة ميدانياً ولا يتجاوز عديدها عدد قيادييها بكثير؟
لا ندري الجهة الحقيقية التي يقصدها كارتر، لكن بالتأكيد ليست الجيش السوري أو الأكراد بإعتبارهم حلفاء لروسيا والجيش السوري أو حتى بقية الجماعات المسلحة التي لا تسمن ولا نغني من جوع بإعتبار أن كلام كارتر يتضمّن معادلة ميدانية تفتقدها هذه الجماعات، وبالتالي ينحصر البحث في تنظيم داعش الإرهابي من ناحية، وجيش الفتح المدعوم تركياً وسعودياً وما لفّ لفه من ناحية أخرى. الغريب أن كارتر يتحدّث عن عدوان روسي، رغم أن موسكو دخلت إلى سوريا بقرار من الحكومة الشرعية، فلماذا هذه الإنتقائية في إعتبار التدخل الروسي عدواناً، وتجاهل التدخّل الأمريكي والتركي والسعودي إلى جانب الجماعات المسلّحة.
التجارب السابقة تشير إلى "شبه" إنصياع روسي للقرار الأمريكي، وهذا ما بدأت ملامحه بالظهور من خلال إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف "إنه يأمل في أن يتم خلال الساعات القادمة إعلان الهدنة في حلب"، لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: ما الذي يضمن أن لا تعاود هذه الجماعات المسلّحة التي تحظى بدعم واشنطن الكرّة في خرق الهدنة ووقف إطلاق النار والإنسحاب من المفاوضات؟ ألم تفعل هذه الجماعات الأمر نفسه، بتغاضٍ إن لم يكن دعماً وتواطئاً أمريكياً، قبل فترة بغية الحدّ من الإنتصارات التي حقّقها الجيش السوري في ريفي حلب الشرقي والشمالي ضد تنظيم داعش الإرهابي؟
يبدو أن أمريكا تسعى للإبقاء على الواقع الحالي في حلب وريفها، فكارتر كان على رأسه الطير عندما تقدّمت الجماعات الإرهابية في حلب وتدمر، كما أن إستراتيجية واشنطن تتلخص في منع الجيش السوري وحلفائه من القضاء على تنظيم داعش الإرهابي في سوريا بإعتباره الذريعة الرئيسية للتواجد والتدخل الأمريكي في الأزمة السورية. وفي حال خمدت الجبهة الحلبية حالياً، بناءاً على تهديد كارتر، فإن الجيش السوري وحلفائه سيركزون قواتهم ونيرانهم على جبهة داعش، لتعود الجبهة السابقة (المدعومة أمريكيا) لإنقاذ داعش عبر فتح جبهات جديدة مع الجيش السوري تمنعه من تركيز قواته في الجبهة الشرقية، وتبقيه في حالة تأهب على كافّة الجبهات، وهذا ما يطلق عليه الإستنزاف التدريجي.
اذاً، يكشف كلام كارتر حقيقة الموقف الأمريكي تجاه الجماعات الإرهابية، وزيف الإدعاءات في مواجهة تنظيم داعش الإرهابي، حيث تسعى واشنطن لإستخدام شمّاعة الإرهاب في تحقيق أهداف سياسية وأخرى إقتصادية. الأهداف السياسية تتلخص بعدّة نقاط أبرزها: تقسيم المنطقة سواءً عبر دعم الأكراد للإستقلال أو الفتنة المذهبية، إستنزاف محور المقاومة وروسيا التي تعاني من أوضاع إقتصادية لا تحسد عليها، حماية الكيان الإسرائيلي، وأما الأهداف الإقتصادية فتبدأ بالموارد الطبيعية وإختبار الأسلحة بالمجان وبيع الأعضاء عبر شركات خاصة تتواجد خلف الخطوط الأمامية في الجبهات، ولا تنتهي بصفقات السلاح التي تضاعفت خلال الأعوام الماضية بسبب هذا الواقع الإرهابي الذي تمتلك واشنطن أسهمه الكبرى.