الوقت- في قلب أرض مدمرة، حيث بات استنشاق الهواء مثقلا برائحة الدم والبارود، تسمع أنين المرضى وصراخ الأطباء الصامت، غزة، حيث تمزق الحد الفاصل بين الحياة والموت بسكين الحصار والقصف.. غزة، هذه البقعة المحاصرة والمدمرة، تحولت اليوم إلى واحدة من أفظع رموز المعاناة البشرية في القرن الحادي والعشرين، هناك، لا يموت الناس فقط تحت الأنقاض، بل أيضا في غرف العمليات التي تفتقر إلى الكهرباء والأدوية، في وسط هذه الكارثة، جاءت شهادة الدكتور جورج بالدُوين، الطبيب المتطوع الأمريكي، كوثيقة حية على جريمة مستمرة بحق الإنسانية، يقول: "في هيروشيما وصلت المساعدات بعد الانفجار، أما في غزة، فالصمت يدفن كل شيء."
استهدافٌ متكرّر وممنهج... أمثلة دامغة على سياسة الحرب ضد الرعاية الصحية
منذ بداية الحرب على غزة في أكتوبر ٢٠٢٣، لجأ الاحتلال الإسرائيلي إلى سياسةٍ واضحة تهدف إلى شلّ القطاع الصحي بالكامل، تشير التقارير إلى أن أكثر من ٣٠ مستشفى قد خرجت عن الخدمة بسبب القصف المباشر أو الحصار الكامل، وعلى رأسها مستشفى الشفاء، أكبر مستشفيات غزة، الذي تم اقتحامه وتدميره بشكلٍ ممنهج، حيث اعتُقل أطباء وممرضون، وعُثر لاحقًا على جثث بعضهم مكبّلة الأيدي، ما يشير إلى إعداماتٍ ميدانية.
كما قُصفت مستشفى ناصر في خان يونس مراتٍ عديدة، ما أدى إلى استشهاد عدد من المرضى والعاملين الصحيين داخله، رغم علم الاحتلال بموقعه ودوره الطبي، واستُهدفت سيارات الإسعاف بشكلٍ متكرر، كما في حادثة قصف ثلاث سيارات إسعاف أمام مستشفى الأندونيسي في شمال القطاع، ما أسفر عن استشهاد طواقم طبية بالكامل.
وفقًا لتقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش"، فإن "استهداف الطواقم الطبية والمرافق الصحية يُعدّ جريمة حرب بموجب القانون الدولي، وخاصة عندما يتم بشكلٍ متكرر ومن دون وجود أي تهديد عسكري فعلي من هذه المؤسسات."
كما وثّقت صحيفة "واشنطن بوست" في تحقيق استقصائي موسّع، أن القوات الإسرائيلية منعت دخول الوقود والمستلزمات الطبية إلى مستشفى القدس التابع للهلال الأحمر، ما أدّى إلى توقفه الكامل، وسط صرخات استغاثة من طواقمه عبر الإذاعات المحلية.
هذه الأدلة تكشف بما لا يدع مجالًا للشك، أن استهداف النظام الصحي في غزة لم يكن صدفة، بل يُشكّل جزءًا من استراتيجية متعمدة لإضعاف صمود السكان وتفكيك الحياة المدنية.
الدكتور بالدُوين، الذي عمل ضمن بعثة إنسانية هناك، قال في شهادته:
"لقد عملت في مناطق حرب عدة، لكنني لم أرَ قط مكانًا تُستهدف فيه المستشفيات بشكلٍ متعمد... في غزة، أصبحت مهنة الطب جريمة."
انهيار المعدات والإمدادات... غرفة العمليات بضوء الهاتف!
الحصار الطويل، ومنع دخول التجهيزات، والدمار الواسع أدّت إلى عمل الطواقم الطبية بأدوات بدائية، عمليات جراحية أُجريت دون تخدير، وخياطة الجروح باستخدام خيوط مستعملة، وبتر الأطراف أصبح الخيار الوحيد نتيجة نقص المضادات الحيوية.
يروي الدكتور بالدُوين:
"جاءنا طفل بحروق من الدرجة الثالثة، لم يكن لدينا أكسجين... لم يكن هناك مخدر... كان يبكي طوال الوقت، ووالدته كانت صامتة تمامًا... لن أنسى ذلك المشهد ما حييت."
بعض الجراحين أجروا عمليات باستخدام ضوء الهاتف المحمول، في ظل انقطاع الكهرباء الكامل، هذا النوع من العمليات يُعدّ من الناحية الطبية أقرب إلى ممارسات ما قبل الحداثة، ويعرّض المريض لمضاعفات قاتلة.
الكارثة الإنسانية... موتٌ تدريجي للرضّع والمرضى المزمنين
الأطفال المولودون حديثًا يموتون في حضّانات بلا كهرباء، مرضى السكري والكلى والقلب يلقون حتفهم بسبب انعدام الأدوية، الأهالي الذين يهرعون بأبنائهم المصابين إلى المستشفى، يعودون بجثامينهم الصغيرة.
في تقريرٍ للجنة الدولية للصليب الأحمر جاء:
"الموت في غزة لم يعد فقط نتيجة القصف، بل نتيجة نظامية لغياب العلاج والرعاية، إنها إبادة صامتة عبر البنية التحتية الصحية."
شهادة طبيبٍ أمريكي... صوتٌ يجب أن يُسمَع
الدكتور جورج بالدُوين، الذي سبق أن عمل في هاييتي وسوريا والسودان، وصف تجربته في غزة بأنها "الأسوأ على الإطلاق"، بعد عودته إلى الولايات المتحدة، قدم شهادة نادرة تم تداولها على نطاق واسع في الأوساط الحقوقية والإعلامية.
قال: "في غزة، بدلًا من إنقاذ الحياة، تصبح شاهدًا على الموت، عليك أن تقول لطفلٍ صغير إن والدته لن تعود، أن تنظر إلى الألم وليس لديك أي وسيلة لتخفيفه، أنا أُسجّل شهادتي للتاريخ، لأنني لا أريد أن يسألني أطفالي لاحقًا: أين كنت عندما كانت غزة تحترق؟."
الإعلام والمنظمات الدولية... صمتٌ يشرعن الجريمة
رغم انتشار صور وفيديوهات توثق تدمير المستشفيات وقتل الطواقم الطبية، إلا أن معظم وسائل الإعلام الغربية تتعامل معها بانتقائية أو تتجاهلها تمامًا، الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يكتفون ببيانات لا تُفضي إلى أي فعلٍ حقيقي، فيما يستمر الاحتلال بمنع دخول الأدوية والمستلزمات الطبية، ويُبقي على الحصار الخانق.
إن سكتنا اليوم، فغدًا سيكون متأخرًا
غزة لم تعد مجرد قطعة أرضٍ على الخريطة، بل باتت رمزًا لانهيار الضمير العالمي، شهادة الطبيب الأمريكي ليست سوى واحدة من مئات القصص التي لم تُروَ بعد، السكوت على ما يحدث هو تواطؤ غير مباشر في إبادةٍ جماعية بطيئة.
دمار النظام الصحي في غزة لا يعني فقط انهيار مستشفيات، بل قتل أمة من الداخل، في ظل الحصار والنيران، يقف الأطباء والممرضون في غزة بقلوبٍ ثابتة وأيادٍ عارية، متحدّين الموت، فهل يستحق العالم كل هذا الإخلاص؟
