الوقت - في تحوّل لافت بمواقف السياسية الخارجية الفرنسية، أعلنت باريس نيتها الاعتراف بدولة فلسطينية خلال الأشهر القليلة المقبلة، وهو ما أثار عاصفة من الردود الإسرائيلية الغاضبة، وعلى الرغم من أن الاعتراف المنتظر لم يتم بعد، إلا أن الأصداء سبقت الحدث، وخلقت واقعاً سياسياً جديداً يبدو أن فرنسا دخلت إليه عن وعي كامل، واستنتاج مدروس نابع من معطيات الواقع الإقليمي والدولي.
لكن ما الذي دفع باريس، الدولة ذات الثقل الأوروبي وعضو مجلس الأمن الدائم، إلى الإقدام على مثل هذه الخطوة الآن، وهي التي كانت تتحرك تاريخياً ضمن هامش ضيق بين دعمها التقليدي للكيان الصهيوني، ومواقفها الإنسانية من القضية الفلسطينية؟
من مجازفة دبلوماسية إلى ضرورة سياسية
يمكن القول إن باريس لم تصل إلى هذا القرار فجأة أو مدفوعة فقط باعتبارات أخلاقية. بل إن خلفيته الحقيقية تبدو أشبه باستنتاج سياسي بارد، يقوم على إعادة تموضع فرنسا في الشرق الأوسط، واستعادة نفوذها الإقليمي الذي بدأ يتآكل لمصلحة أطراف أخرى، أبرزها الولايات المتحدة وتركيا وروسيا، وحتى الصين.
يبدو أن الإليزيه توصّل إلى قناعة مفادها بأن الاستمرار في السير على خطى السياسات الغربية التقليدية، الداعمة بشكل غير مشروط لـ"إسرائيل"، لم يعد يخدم مصالح فرنسا، بل على العكس، قد يؤدي إلى تقليص حضورها في منطقة تعيد تشكيل توازناتها.
وقد جاء هذا التحول مدفوعاً بعوامل متشابكة:
استعصاء عملية السلام: بعد أن أعلنت "إسرائيل" صراحة عبر قرار الكنيست في يوليو 2024 رفضها لقيام دولة فلسطينية، باتت باريس ترى أن أي انتظار لحل تفاوضي أصبح ضرباً من العبث، ما جعل الاعتراف بفلسطين خطوة لازمة للخروج من مأزق السلام المجمد.
الضغوط الأوروبية والداخلية: فرنسا تواجه ضغطاً متزايداً من داخل الاتحاد الأوروبي ومن قوى سياسية محلية وحقوقية، تطالب بخطوات أكثر وضوحاً تجاه دعم حقوق الفلسطينيين، وخاصة بعد المجازر التي طالت غزة في الأشهر الأخيرة.
إعادة تشكيل العلاقة مع الدول العربية: تتزامن خطوة الاعتراف مع محاولات حثيثة تقودها باريس لإحياء مشروع تطبيع العلاقات بين "إسرائيل" والسعودية، في صفقة متكاملة تشمل وقف الحرب على غزة واعترافاً بدولة فلسطينية من قبل عدة أطراف، دون إلزام "إسرائيل" بالاعتراف الصريح بها، هذه المبادرة، وفقاً لمصادر دبلوماسية، تهدف إلى تموضع فرنسا كوسيط نزيه، قادر على مخاطبة الطرفين.
استباق الفراغ الأمريكي: في ظل انشغال واشنطن بالحرب في أوكرانيا والملف النووي الإيراني، ترى باريس فرصة لملء فراغ القيادة الغربية في الملف الفلسطيني، عبر تقديم نفسها كقوة قادرة على إطلاق "ديناميكية جماعية" للسلام.
هجوم إسرائيلي: ردة فعل أم كشف لمخاوف عميقة؟
الهجوم العنيف الذي شنه كل من وزير الخارجية جدعون ساعر ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على باريس، لم يكن مجرد ردة فعل على تصريح سياسي، بل كشف عن مدى حساسية تل أبيب تجاه أي تحوّل في مواقف الحلفاء التقليديين.
ساعر حذّر من أن اعتراف فرنسا بفلسطين "سيقوّض نفوذها في المنطقة" ويزعزع الاستقرار، بل واعتبره دعماً لحركة حماس، في حين وصف نتنياهو ماكرون بأنه يروّج لـ"أوهام تهدد وجود إسرائيل"، كما ذهب إلى أبعد من ذلك بمقارنة خطوة ماكرون برفض فرنسا منح الاستقلال لمناطق مثل كورسيكا وكاليدونيا الجديدة، في محاولة للتشكيك في مصداقية الموقف الفرنسي.
لكن خلف هذا التشنج الإسرائيلي، تختبئ خشية حقيقية من أن يكون الاعتراف الفرنسي بمثابة كسر للحصار السياسي المفروض على الفلسطينيين، وشرارة لاعترافات دولية متتالية، وخصوصاً إذا انضمت بريطانيا، التي يواجه حزبها الحاكم ضغطاً من نواب "العمال"، إلى هذا التوجه.
مؤتمر نيويورك: منصة للاعتراف الجماعي
تخطط فرنسا لتنظيم مؤتمر دولي لحل الدولتين في نيويورك في يونيو 2025، بالتعاون مع السعودية، ويبدو أن باريس تراهن على جعل هذا المؤتمر نقطة تحوّل، حيث يمكنها إعلان الاعتراف بالدولة الفلسطينية ضمن مظلة دولية أوسع، تضم دولاً أوروبية وإسلامية.
وهنا يظهر البُعد الاستراتيجي الحقيقي للموقف الفرنسي: التحوّل من الفعل الأحادي إلى بناء تكتل دولي ضاغط على "إسرائيل"، مع طرح مقاربة جديدة توازن بين الاعتراف بفلسطين، وتحقيق مكاسب دبلوماسية لـ"إسرائيل"، مثل التطبيع مع السعودية.
الاعتراف: خطوة رمزية أم مفتاح الحل؟
صحيح أن الاعتراف الفرنسي -إن تمّ- لن يغيّر من الواقع القانوني أو الجغرافي على الأرض فوراً، إلا أن رمزيته السياسية كبيرة، وخاصة أنه يصدر عن دولة لها علاقات تاريخية قوية مع "إسرائيل"، وسبق أن لعبت دوراً في دعم قدراتها النووية.
لكن باريس تدرك أن الرمزية وحدها لا تكفي، لذلك تركز على جعل الاعتراف جزءاً من مسار سياسي أوسع، يتضمّن آليات تنفيذ، ومشاركة دولية، ونزع فتيل الحرب في غزة، وإعادة إعمارها، وحتى إرسال قوات فرنسية لتوزيع المساعدات الإنسانية إذا لزم الأمر.
الفرنسيون لم يصلوا إلى قرار الاعتراف بفلسطين بدافع عاطفي أو نكاية بالكيان الصهيوني، بل نتيجة استنتاج استراتيجي يرى أن موقع فرنسا الإقليمي والدولي يتآكل ما لم تتخذ موقفاً جريئاً، وما بين الاعتراف الرمزي والسعي الحقيقي لبناء مسار سلام جديد، يبدو أن باريس تراهن على التوقيت، والديناميكية الجماعية، والضغط الدولي المتنامي على "إسرائيل".
وفي الوقت الذي تتأرجح فيه مواقف الغرب ما بين الحذر والدعم المطلق، قررت فرنسا أن تنحاز، ولو نسبياً، إلى "عدالة القضية"، في خطوة قد تغيّر وجه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وتفتح الباب أمام تحوّلات سياسية إقليمية غير مسبوقة.