الوقت- منذ أشهر، تعيش غزة لحظةً تاريخية سوداء، لم تشهد لها مثيلاً منذ نكبة عام 1948، مأساة إنسانية متكاملة الأركان تتكشف يومًا بعد يوم، بينما يصمت العالم أو يتواطأ، وتتفرّج المؤسسات الدولية من خلف الشاشات على موت شعب بأكمله، لقد تحوّلت غزة إلى أكبر ساحة للإبادة الجماعية في القرن الحادي والعشرين، وأصبح كل بيت فيها شاهدًا على جريمة، وكل طفل مشروع شهيد.
وفي هذا السياق،أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن الوضع في غزة بلغ "الأسوأ على الأرجح" منذ اندلاع الحرب بين "إسرائيل" وحماس، في ظل توقف تام لدخول المساعدات الإنسانية منذ أكثر من شهر ونصف شهر، فيما حذرت منظمات دولية من تدهور خطير للأوضاع الإنسانية وسط افتقار لمستلزمات أساسية في القطاع.
جغرافيا الموت
غزة، هذا الشريط الساحلي الصغير، المحاصر منذ 17 عامًا، والبالغ طوله 41 كم فقط، بات اليوم المكان الأخطر على وجه الأرض، لا يوجد فيه مكان آمن، لا مأوى، لا طعام، لا ماء، لا كهرباء، ولا حتى مقابر كافية لدفن الشهداء.
منذ بدء العدوان في أكتوبر 2023، وحتى لحظة كتابة هذا المقال، قُتل أكثر من 40 ألف فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال، وجُرح أكثر من 85 ألفًا، في ظل نظام صحي منهار، ومستشفيات خارجة عن الخدمة، وأطباء يعملون تحت القصف، ومن دون معدات، ولا أدوية، ولا وقود.
كارثة غذائية تهدد بالبقاء
تسببت سياسة الحصار والتجويع التي تتبعها قوات الاحتلال في كارثة غذائية غير مسبوقة، تقارير الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية حذرت من أن أكثر من مليون ونصف شخص يواجهون خطر المجاعة المباشرة، وخاصة في شمال القطاع، حيث تم استخدام الجوع كسلاح، في انتهاك فاضح للقانون الدولي الإنساني.
شهادات الأهالي تُبكي الحجر: أطفال يتقاسمون فتات الخبز، أمهات يطبخن أوراق الشجر، رجال يبحثون عن مياه الشرب من المجاري الملوثة، إن ما يحدث في غزة هو تجويع جماعي مُمنهج ومقصود، بشهادة تقارير رسمية ومراقبين أمميين.
تدمير ممنهج للبنية التحتية
لم يتوقف العدوان الإسرائيلي عند استهداف الإنسان فقط، بل امتد إلى تدمير شامل لكل مظاهر الحياة، تم تدمير البنية التحتية من المباني السكنية في غزة بشكل كامل، بما فيها مدارس، مساجد، كنائس، جامعات، ومراكز إغاثة، البنية التحتية لقطاع الكهرباء والماء والصرف الصحي تم تفكيكها حرفيًا، المستشفيات أصبحت أهدافًا مباشرة، كما حدث في مستشفى الشفاء، والناصر، والقدس، وغيرها من المستشفيات التي قُصفت بدم بارد.
أما المدارس التابعة للأونروا، والتي لجأ إليها مئات آلاف النازحين، فلم تسلم من القصف، في انتهاك سافر لاتفاقيات جنيف، ليصبح المدنيون في غزة عالقين بين النار والجوع والتشريد.
نزوح داخلي كارثي
شهد قطاع غزة أكبر موجة نزوح داخلي في تاريخه، أكثر من 1.9 مليون فلسطيني – أي نحو 85% من سكان القطاع – أجبروا على مغادرة منازلهم، والنزوح من منطقة إلى أخرى تحت القصف، دون أن يجدوا مأوى. تحولت الشوارع إلى مخيمات عشوائية، والساحات إلى مقابر جماعية، والناس إلى لاجئين داخل وطنهم الصغير.
النكبة تُعاد من جديد، ولكن هذه المرة على الهواء مباشرة، عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل، أمام عيون العالم الذي لم يتحرك إلا بالبيانات الخجولة، إن تحرك.
صمت دولي وتواطؤ غربي
ما يجعل المأساة أكبر من القصف، هو الصمت الدولي المطبق، والتواطؤ العلني لبعض القوى الغربية التي توفر الحماية السياسية والعسكرية للكيان الصهيوني، الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، أمدّت الاحتلال بالقنابل الذكية، والدعم اللوجستي، والغطاء السياسي، رغم إدراكها الكامل لطبيعة الجرائم المرتكبة.
أما الدول الأوروبية، فبين من يدعم "إسرائيل" علنًا، وبين من يندد خجولًا، دون اتخاذ أي خطوة عملية لوقف المجازر أو فرض عقوبات، بل تُقمع التظاهرات المؤيدة لفلسطين، وتُحظر شعارات التضامن.
غزة وصعود الضمير الشعبي
ورغم هذا الظلام، فإن هناك ما يدعو للأمل: ضمير الشعوب، الملايين خرجوا في عواصم العالم، من لندن إلى جوهانسبرغ، ومن كوالالمبور إلى شيكاغو، يرفعون أعلام فلسطين، ويهتفون من أجل غزة، الجامعات الغربية شهدت اعتصامات طويلة، أطلقها طلاب وأكاديميون رفضًا لتمويل الاحتلال أو التواطؤ مع جرائمه.
حملات المقاطعة تضاعفت، سواء على مستوى المنتجات، أو العلاقات الأكاديمية والثقافية، شركات تضررت، مؤسسات واجهت ضغطًا هائلًا، وفنانون وأدباء عالميون أعلنوا انحيازهم الواضح لفلسطين، رغم محاولات إسكاتهم.
هل تغيّر شيء؟
رغم كل هذا الحراك الشعبي، لا تزال آلة القتل مستمرة، لكن الحقيقة أن الأمور تغيرت من تحت السطح، الصورة القديمة لـ"إسرائيل" كضحية مهددة بدأت تتهاوى أمام الرأي العام العالمي، تغطية الجرائم بالصوت والصورة، وتوثيق الانتهاكات من قبل منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"أطباء بلا حدود"، و"أمنستي"، أدّت إلى تآكل شرعية "إسرائيل" الأخلاقية بشكل غير مسبوق.
هذا التحوّل لا يُعطي نتائج فورية، لكنه يُمهّد لتحولات قانونية وسياسية طويلة الأمد، ولعل أبرز تجلّيات ذلك: دعوى جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها "إسرائيل" بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وهو تطور قانوني غير مسبوق في تاريخ الصراع.
المقاومة تصمد… وغزة لا تنكسر
رغم كل هذا الدمار، غزة لم تستسلم، الروح الفلسطينية لا تزال مشتعلة، والمقاومة لم تُكسر، بالعكس، فإن حجم التضحيات يُقابله ثبات غير مسبوق من المجتمع الغزّي، الذي بات يُجسّد معنى الصمود أمام القوة العمياء.
الرسالة التي تبعث بها غزة اليوم هي: "نحن نحيا رغم الموت، ونقاوم رغم الجوع، ونؤمن بالحرية رغم أن العالم خذلنا".
ختام القول، غزة ليست مأساة… بل مسؤولية
ما يجري في غزة ليس فقط مأساة إنسانية، بل وصمة عار على جبين الإنسانية، التاريخ لن ينسى هذا الصمت، ولن يغفر لأولئك الذين ساهموا في الحصار والقتل والتجويع، غزة ليست مجرد عنوان لخبر عاجل، إنها جبهة كرامة عالمية، وسقوط أخلاقي للنظام الدولي، ومنطقة اختبار لقيمة الإنسان.
السؤال الذي يبقى :هل ستستمر الإنسانية في خذلان غزة؟ أم إنها ستنتصر في النهاية للحق؟
الجواب ليس في يد السياسيين وحدهم، بل في يد كل إنسان يملك ضميرًا.