الوقت - في الأسبوع المنصرم، فاجأ الرئيس الأمريكي العالم بإعلانه - بحضور رئيس وزراء الكيان الصهيوني - عن قرب انطلاق مفاوضات نووية رفيعة المستوى مع طهران، ما أصاب قادة تل أبيب بصدمة لم يخفوها، فقد راهن هؤلاء بكل ثقلهم على فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية، آملين أن يعيد سياسة الضغط القصوى ضد إيران، بدلاً من نهج الحوار الذي انتهجه سلفاه أوباما وبايدن.
بيد أن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن الصهاينة، إذ انحاز دونالد ترامب إلى خيار الدبلوماسية في مقاربته للملف الإيراني، ليُمنى الكيان الصهيوني بإخفاق جديد في مساعيه الحثيثة لإقناع أمريكا بشنّ هجوم على إيران، حتى في عهد رئيس يُعدّ من أشدّ المتحالفين مع تل أبيب.
هواجس صهيونية من تقارب طهران وواشنطن
أربك انطلاق المفاوضات بين طهران وواشنطن حسابات قادة الكيان الصهيوني وأذهلهم إلى حد بعيد، إذ يرون في أي تفاهم محتمل بين الجانبين نذير شؤم لكيانهم وتهديداً لأمنهم.
وتنقل صحيفة "إسرائيل هيوم" في تقرير حول تباين المصالح الأمريكية والصهيونية: "رغم أن ترامب، على خلاف سلفيه أوباما وبايدن، يبدي تعاطفاً أوفر واهتماماً أجلى بإسرائيل في قضايا محورية كالملف الإيراني، إلا أن هذا لا يعني تطابقاً بين مصالح إسرائيل وأمريكا، فواشنطن تميل إلى تسوية الخلافات مع طهران عبر الاتفاق بدلاً من المواجهة العسكرية متى لاحت فرصة لذلك، والسؤال المحوري: هل سيصب هذا في مصلحة إسرائيل؟ بالقطع لا، لأن مثل هذا الاتفاق سيفضي حتماً إلى رفع العقوبات عن إيران، وبالتالي تدفق السيولة المالية نحو الجمهورية الإسلامية وحلفائها في الشرق الأوسط".
وحيث إن الصهاينة، وفي مقدمتهم نتنياهو، لا يجسرون على تكرار ما اقترفوه إبان مفاوضات عهدي أوباما وبايدن في مواجهة شخصية متقلبة كترامب، فإنهم ينتهجون مسلكاً ملتوياً لإفشال المفاوضات وتقويض أركانها.
محاور الاستراتيجية الصهيونية الأربعة لنسف المفاوضات
ينتهج الكيان الصهيوني حالياً خطةً ذات أربعة محاور لتخريب المفاوضات، أو وضع العصي في دواليبها:
المحور الأول: السعي لتغيير تشكيلة الفريق الأمريكي المفاوض عبر تشويه سمعة ستيف ويتكوف
شنت مراكز الأبحاث والإعلام والنخب الصهيونية في الآونة الأخيرة حملةً شعواء لتقويض مصداقية ويتكوف، والتشكيك في كفاءته.
يسعى الصهاينة إلى بثّ الإيحاء بأن ويتكوف يفتقر إلى المعرفة الكافية بإيران والمفاوضين الإيرانيين، وبالتالي قد يعجز عن التوصل إلى اتفاق يلبي مطامح الكيان الصهيوني.
فعلى سبيل المثال، کتب أمير بار شالوم، محلل موقع "إسرائيل تايمز": "يتولى زمام الفريق الأمريكي المفاوض ستيف ويتكوف، مبعوث ترامب الخاص للشرق الأوسط، ورغم علاقته الوطيدة بترامب وإسرائيل، إلا أن معارفه عن إيران محدودة للغاية، في المقابل، يقف السيد عباس عراقجي، وهو دبلوماسي مخضرم يمتلك خبرةً وافرةً كرئيس للفريق الإيراني المفاوض في اتفاق 2015 النووي".
المحور الثاني: الترويج لنموذج الاتفاق النووي الليبي كمثال للاتفاق المرتقب مع إيران
قبيل انطلاق المفاوضات، وحين أفصح ترامب في لقائه مع نتنياهو عن قرب انطلاق المحادثات مع إيران، طرح رئيس وزراء الكيان الصهيوني نموذج ليبيا، مطالباً بالتوصل إلى اتفاق مماثل مع إيران.
يدرك الطرفان الأمريكي والصهيوني تمام الإدراك أن إيران لن ترضخ أبداً لاتفاق على غرار النموذج الليبي الذي يقضي بوأد برنامجها النووي، بيد أن الصهاينة يروجون لهذه الفكرة للتأثير على الموقف الإيراني وبثّ بذور الشك حول المفاوضات، واستنهاض المتشددين داخلياً ضد الحكومة والمفاوضين الإيرانيين.
المحور الثالث: تأجيج نار الخلاف بين إيران وأمريكا
دأب الصهاينة على مدى السنوات المنصرمة على إذكاء جذوة التوتر بين إيران وأمريكا، ودفعه نحو المواجهة العسكرية عبر عمليات تخريبية في إيران، كاغتيال علماء ومسؤولين عسكريين، والتخطيط لإلحاق أضرار بمنشآت إيرانية شتى، وشنّ حملات إعلامية مسعورة ضد البرنامجين النووي والعسكري الإيراني لاستفزاز الغرب.
ومن أبرز الشواهد على ذلك، استعراض نتنياهو عام 2018 لوثائق زعم أنها تثبت سعي إيران لصنع سلاح نووي، والذي أثّر تأثيراً بالغاً على الرئيس الأمريكي ودفع ترامب للانسحاب من الاتفاق النووي، ورغم أن الوثائق المزعومة لم تتضمن أي برهان على سعي إيران لصنع سلاح نووي، إلا أن رئيس وزراء الكيان الصهيوني نجح في التأثير على ترامب.
ومع بدء المفاوضات بين إيران وأمريكا، لا تستبعد مصادر أمنية وسياسية داخل إيران وخارجها، احتمال وقوع حادث مفاجئ مدبر من قبل الكيان الصهيوني بهدف تأجيج نيران الخلاف بين طهران وواشنطن.
المحور الرابع: الحرب النفسية والتضليل الإعلامي لعرقلة المفاوضات
يشمل وجه آخر من استراتيجية الصهاينة للضغط على الفريق الإيراني وخلق مناخ متوتر في إيران، نشر أخبار زائفة ومختلقة عن أجواء المفاوضات، تسعى وسائل الإعلام المرتبطة بالصهاينة ونظيراتها الغربية، إلى بثّ سموم إعلامية عن واقع المفاوضات لتصعيد المعارضة، والضغط الداخلي على فريق التفاوض الإيراني.
ومن أمثلة ذلك ما روجته وسيلة إعلام أمريكية (أكسيوس) من أن عباس عراقجي وستيف ويتكوف تلاقيا وجهاً لوجه وتحادثا لمدة 45 دقيقة خلال المفاوضات، ما أثار سهام النقد من بعض الشخصيات السياسية والإعلامية لعراقجي بشأن لقائه الدبلوماسي مع المبعوث الأمريكي عقب انفضاض المفاوضات.
أدلى عراقجي بعد اختتام المفاوضات في مقابلة مع الإعلام الوطني: "بعد انتهاء المفاوضات، وأثناء المغادرة، جرى لقاء ومحادثة وجيزة مع الجانب الأمريكي، وهذا أمر متعارف عليه في الأعراف الدبلوماسية، لقد التزمنا دوماً باللياقة الدبلوماسية في تعاملنا مع الدبلوماسيين الأمريكيين في المفاوضات، وبعد محادثة مقتضبة، غادرنا المكان فوراً، لم يكن الأمر خارقاً للعادة على الإطلاق".
أثار هذا الموضوع موجةً من الانتقادات من بعض الشخصيات السياسية والإعلامية، وتحول إلى قضية شائكة في الفضاء الافتراضي المتعلق بالمفاوضات، وفي أعقاب هذه الحساسية، ركزت وسيلة الإعلام الأمريكية "أكسيوس" على هذه القضية، وادعت كذباً أن هذا اللقاء لم يكن عابراً بل امتد لخمس وأربعين دقيقة!
وزعم التقرير أن مصدراً مطلعاً قال لمراسل أكسيوس بأن المفاوضين الرئيسيين، ستيف ويتكوف وعباس عراقجي، تباحثا يوم السبت لنحو 45 دقيقة، أي أطول مما أُعلن رسمياً، ووصف المصدر المحادثة المذكورة بأنها أرفع مستوى من الحوار بين مسؤولي الولايات المتحدة وإيران منذ ثماني سنوات خلت!
وبعد برهة وجيزة، أكد مصدر إيراني موثوق أن تقرير أكسيوس الإخباري حول المدة المزعومة (45 دقيقة) لمحادثات عراقجي مع الجانب الأمريكي، عار عن الصحة ومحض افتراء، في الحقيقة، جرت هذه المحادثة في ختام المفاوضات ولدقائق معدودات فحسب، وبمبادرة من الوسيط العُماني.
تُحاك هذه السيناريوهات الإعلامية بأيدٍ صهيونية بهدف صرف الأنظار عن المسار الرئيسي للمفاوضات والغايات المنشودة، وتفضي إلى تشويه صورة الحكومة والمفاوضين من قبل بعض التيارات الداخلية المتشددة.
ففي الوقت الذي صعق فيه قرار دونالد ترامب بشأن التفاوض النووي مع إيران قادة الكيان الصهيوني وأثار سخطهم، يواجه ساسة تل أبيب، الذين عقدوا آمالهم على استمرار سياسة الضغط القصوى ضد طهران، بزوغ فجر جديد للمفاوضات بين إيران وأمريكا، ويعدون أي تقارب بين واشنطن وطهران خنجراً مسموماً في خاصرتهم، لأن رفع العقوبات قد يعزز شوكة إيران وحلفائها في المنطقة.
لذلك، نسج الصهاينة بحذر وتصميم خطةً رباعية الأبعاد لتقويض مسار المفاوضات: من تشويه سمعة ستيف ويتكوف، المفاوض الأمريكي، لتغيير تشكيلة فريق التفاوض، إلى الترويج لنموذج الاتفاق الليبي للضغط على إيران، ومن إذكاء نار الخلاف بين إيران وأمريكا من خلال عمليات تخريبية محبوكة، إلى بثّ سموم إعلامية لزعزعة الوحدة الداخلية الإيرانية، هذه المناورات الخفية، التي تراعي المكانة الخاصة لترامب لدى الصهاينة، هي محاولة يائسة لإجهاض الدبلوماسية التي قد تقلب موازين القوى في المنطقة.