الوقت- في الوقت الذي يتسابق فيه العالم نحو سباقات التسلح والتكنولوجيا، تُسحق طفولة الملايين في السودان تحت وطأة الجوع، المرض، والنسيان، بلدٌ مزقته الحرب منذ أكثر من عامين، وها هو اليوم يواجه كارثة إنسانية غير مسبوقة تهدد بإبادة جيل كامل من الأطفال، دون أن تحرّك القوى العالمية ساكنًا، إنها مأساة إنسانية بكل المقاييس، تدور أحداثها في الظل، بعيدًا عن أعين الكاميرات والمنصات الكبرى.
منذ اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، دخلت البلاد في دوامة من الفوضى والانهيار الكامل لكل مؤسسات الدولة، ولا سيما القطاعات الحيوية مثل الصحة، التعليم، والتموين، لكن أكثر من دفع الثمن الباهظ هم الأطفال، الذين وجدوا أنفسهم عالقين بين خطوط النار، يواجهون الجوع القاتل بلا غذاء، والمرض الفتاك بلا دواء، والبرد والمخاطر بلا مأوى.
أرقام تفوق التصور: موت كل ساعة... وصمت مطبق
الخرطوم، 12 أبريل 2025 ــ كشفت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، السبت، عن حصيلة جديدة حول الوفيات وسط الأطفال بسبب سوء التغذية، حيث بلغت 45 ألف حالة وفاة منذ اندلاع النزاع.
وتوقعت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف”، أن يعاني 3.2 ملايين طفل من سوء التغذية الحاد هذا العام، منهم 770 ألف طفل يواجهون سوء التغذية الحاد الوخيم، ما يجعلهم أكثر عرضة للوفاة من المرض بمقدار 11 مرة.
وقالت عضو اللجنة التمهيدية -فرعية خصوصي أم درمان- أديبة إبراهيم السيد، لـ “سودان تربيون”: إن “حصيلة حالات الإصابة بالأمراض وسط الأطفال ارتفعت بصورة كبيرة نتيجة لاستمرار الحرب، كما توفي 45 ألف طفل بسبب سوء التغذية منذ اندلاع النزاع".
وأضافت إن اللجنة رصدت وفاة طفل أو طفلين كل ساعة بمخيم كلما بجنوب دارفور ومخيم زمزم بشمال دارفور، إضافة إلى مراكز الإيواء في مدينة أدري شرقي تشاد التي تستضيف مئات الآلاف من اللاجئين السودانيين، وأفادت بأن هذه الأرقام تشمل فقط المخيمات البعيدة عن مرافق الرعاية الصحية، ما يعني أن الأعداد الفعلية قد تكون أعلى بكثير.
وفي بلدٍ يُفترض أنه كان من سلال القمح في إفريقيا، يموت الأطفال اليوم بسبب لقمة مفقودة، وحليب غير متاح، ورعاية طبية منعدمة.
سوء التغذية كأداة حرب
ما يحدث في السودان لا يمكن النظر إليه على أنه نتيجة جانبية للحرب فقط، بل إن سوء التغذية أصبح أداة من أدوات القتل الجماعي، الحصار المفروض على مناطق مثل جنوب كردفان ودارفور، أدى إلى انقطاع تام للمساعدات الإنسانية والمواد الغذائية الأساسية، وكنتيجة مباشرة، كشفت أديبة إبراهيم السيد عن إصابة أكثر من 286 ألف طفل بسوء التغذية، ما أدى إلى وفاة 166 ألف رضيع من حديثي الولادة.
كما أدت الأوضاع الصحية المتدهورة إلى تفشي أمراض خطيرة بين الأطفال، منها الكوليرا التي أودت بحياة 178 ألف طفل، والحصبة التي أصابت 477 ألفًا، والبروجين الذي انتشر بين 359 ألف طفل، إضافة إلى ظهور 122 حالة مؤكدة من شلل الأطفال، وهو مرض كان قد اختفى تقريبًا من السودان قبل الحرب.
وقد أرجعت اللجنة الطبية انتشار هذه الأمراض إلى ضعف المناعة الناتج عن الجوع، وغياب التطعيمات الأساسية، وشح المياه النظيفة، وانعدام الصرف الصحي، والازدحام الشديد في المخيمات ومراكز الإيواء التي أصبحت ملاذًا لقرابة 9 ملايين نازح.
الطفولة المذبوحة: عنف واغتصاب وتجنيد قسري
الوجع في السودان لا يتوقف عند حدود المجاعة والمرض، بل يمتد ليشمل الانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها الأطفال يوميًا، فوفقًا لتقارير أممية، تُعد الطفولة السودانية من أكثر الفئات التي تعرضت لانتهاكات خلال الحرب، بما في ذلك القتل، العنف الجنسي، الاغتصاب، الاختطاف، والتجنيد القسري في الجماعات المسلحة.
وقد حذرت منظمة "إنقاذ الطفولة" في تقرير صدر بتاريخ 30 أكتوبر 2024 من أن 3.2 ملايين طفلة نازحة يواجهن خطر العنف الجنسي، الزواج القسري، أو الزواج المبكر، وسط عجز شبه كامل عن تقديم الحماية لهن، ونبه التقرير إلى أن نصف النازحين داخليًا، البالغ عددهم 11.3 مليون شخص، هم من الأطفال.
دور المجتمع الدولي: تواطؤ أم تقاعس؟
في ظل هذه الأرقام الصادمة، لا يسعنا إلا أن نتساءل: أين المجتمع الدولي من هذه المأساة؟ وأين المنظمات الإنسانية الكبرى؟ وأين الدول التي تنادي بحقوق الإنسان في كل محفل؟
الاستجابة الدولية حتى اللحظة لم ترتقِ إلى مستوى الكارثة، سواء من حيث التمويل أو الضغط السياسي أو فتح الممرات الإنسانية، بل إن بعض الدول، بدلاً من أن تدعم الحلول السلمية، انخرطت في دعم أحد طرفي النزاع سياسيًا أو عسكريًا، ما أطال أمد الحرب وفاقم معاناة المدنيين.
إلى أين؟ وما الحل؟
أمام هذا المشهد الكارثي، لم يعد الصمت ممكنًا، ولم يعد التغاضي خيارًا، إن السودان بحاجة إلى تحرك عاجل، يشمل:
وقف إطلاق النار فورًا وتثبيت هدنة إنسانية دائمة في المناطق المنكوبة.
فتح ممرات آمنة لوصول المساعدات الطبية والغذائية للمناطق المحاصرة.
زيادة تمويل المنظمات الإنسانية العاملة في السودان، ودعم برامج التغذية والتحصين.
محاسبة المتورطين في الانتهاكات ضد الأطفال، وملاحقتهم أمام المحاكم الدولية.
دعم مبادرات إعادة الإعمار وتأهيل القطاعات الصحية والتعليمية بشكل عاجل.
ختامًا: لا تتركوا أطفال السودان وحدهم
ما يحدث في السودان اليوم لا يجب أن يكون مجرد خبر عابر في شريط الأخبار، إنها فاجعة أخلاقية، واختبار حقيقي لضمير العالم، فكل طفل يموت جوعًا في دارفور أو كردفان أو أدري، هو وصمة عار في جبين البشرية، وإن لم نتحرك الآن، فسنكون جميعًا شركاء في الجريمة، بصمتنا وتخاذلنا.