الوقت- تشهد الساحة الباكستانية تطورات دراماتيكية، حيث أودت الاشتباكات الأخيرة بحياة عشرين عنصراً من القوات الأمنية، ما يُنذر بتصعيد وشيك في المواجهات بين السلطات المركزية وحركة طالبان باكستان، الأمر الذي قد يُفضي إلى موجة عارمة من الاضطرابات الأمنية في البلاد.
وفي تطور خطير يعكس هشاشة الوضع الأمني، أفادت المصادر الإعلامية باندلاع مواجهات عنيفة في منطقة "كرم" التابعة لإقليم خيبر بختونخوا، حيث تعرض موكب مدني يضمّ مئتي مركبة، كان في طريقه من باراشينار إلى بيشاور، لهجوم مسلح أسفر عن سقوط ثمانين ضحية، غالبيتهم من الشيعة، ما أجّج الصراع الطائفي بين القبائل في المنطقة.
وقد شهد يوم الخميس المأساوي استهدافاً ممنهجاً للقافلة المدنية، ما أسفر عن سقوط ضحايا من الفئات الأكثر هشاشةً - نساءً وأطفالاً وكبار السن - في حادثة وصفها مراقبون بأنها "جريمة ضد الإنسانية".
وفي مشهد مهيب، احتشد الآلاف من السكان المحليين يوم الجمعة في مراسم تشييع الضحايا، مطلقين صرخة احتجاج مدوية تطالب السلطات الإقليمية والفيدرالية، بوضع حد نهائي لمسلسل العنف المستمر ضد أهالي باراشينار.
ومع مرور أسبوع على الحادثة المأساوية، تجاوزت الحصيلة المؤسفة حاجز المئة ضحية، وامتد العنف ليطال البنية التحتية والممتلكات العامة والخاصة، في تصعيد خطير ينذر بتداعيات وخيمة على النسيج الاجتماعي للمنطقة.
وفي ظل عجز واضح، أخفقت حكومة إقليم خيبر بختونخوا في تحقيق هدنة في المنطقة المضطربة، حيث أقر علي أمين غندابور، رئيس وزراء الإقليم، بصعوبة الوضع الراهن، مؤكداً استحالة زيارة باراشينار قبل استتباب الأمن.
وفي سياق متصل, أثار قرار تخصيص ستة عناصر أمنية فقط لحماية قافلة تضمّ مئتي مركبة، تساؤلات جدية حول احتمالية وجود تقصير متعمد من قبل الأجهزة الأمنية.
وإزاء هذه التطورات الخطيرة، أجری موقع "الوقت" حواراً مع الخبير البارز إسماعيل باقري، المتخصص في شؤون شبه القارة الهندية والباحث في دراسات شرق آسيا، لتقديم تحليل حول ظاهرة التطرف في باكستان، وتشريح جذورها الفكرية، ورصد تداعياتها الجيوسياسية على المنطقة بأسرها.
الجذور الجيوسياسية للأزمة
في تحليل للديناميكيات الجيوسياسية المعقدة في إقليم خيبر بختونخوا، كشف الخبير عن المحددات الرئيسية للمشهد الأمني المتأزم، مسلطاً الضوء على مساعي حركة تحريك طالبان لتأسيس كيان "بشتونستان الحرة" كمحرك محوري للاضطرابات الراهنة، وفي شرح للخريطة الجيوسياسية، أوضح المحلل:
"شهدت حقبة نواز شريف تحولاً هيكلياً جذرياً، تمثّل في دمج المناطق القبلية المتمتعة بالحكم الذاتي مع إقليم الحدود الشمالية الغربية، متخذةً من بيشاور عاصمةً إداريةً، وتكتسب المناطق القبلية السبعة - وزيرستان بشقيها الشمالي والجنوبي، خيبر، كرم، مهمند، باجور، وأوركزاي - أهميةً استراتيجيةً فائقةً في المعادلة الإقليمية.
يمتد هذا النطاق الجيوستراتيجي على امتداد الشريط الحدودي الباكستاني-الأفغاني بعمق 800 كيلومتر، من جنوب ننجرهار وصولاً إلى قندهار، ويُعرف هذا الخط الحدودي المثير للجدل باسم "خط ديورند"، الذي يحظى باعتراف باكستاني وتجاهل أفغاني، وخاصةً بعد انقضاء الاتفاقية المئوية (1893-1993).
وتُشكل الإشكالية البشتونية - بتوزعها الجغرافي بين الدولتين - تحدياً جيوسياسياً مركباً، في ظل تنامي النزعات الانفصالية لدى بشتون باكستان، الساعين لإقامة كيان مستقل في المناطق القبلية المندمجة حالياً ضمن إقليم خيبر بختونخوا.
أما المحور الثالث فيتجلى في التماهي الأيديولوجي والفكري المتشدد بين جناحي طالبان - الأفغاني والباكستاني - حيث نجحت الحركة في استقطاب عناصر متنوعة إثنياً من آسيا الوسطى والبلوش والعرب، ويتزامن هذا مع دعم استخباراتي غربي ملحوظ من CIA والموساد والـ MI6، رغم المحاولات الحثيثة للتنصل من العلاقة بين فرعي الحركة.
ويبرز في هذا السياق الدور المثير للجدل للأجهزة الأمنية، حيث يُلاحظ تراخٍ لافت من المؤسسة العسكرية الباكستانية في مواجهة تحريك طالبان باكستان وتنظيم "داعش"، في ظاهرة معقدة تعكس عجزاً واضحاً عن ضبط الجماعات المدعومة استخباراتياً من القوى الغربية.
البصمة البارزة للأجهزة الاستخباراتية الأجنبية
يقدّم الخبير المتخصص في شؤون شبه القارة الهندية رؤيةً تحليليةً حول تنامي النفوذ المتطرف والإرهابي في المنطقة، مؤكداً أن هذا التصاعد يأتي كنتيجة مباشرة لتحركات الدوائر المرتبطة بالأجهزة الاستخباراتية الأجنبية، ويستشهد في هذا السياق بتنظيم "داعش خراسان" كنموذج صارخ لهذه التدخلات، حيث تسعى الأجهزة الاستخباراتية الغربية، وعلى رأسها الأمريكية وعملاؤها الإقليميون، بشكل ممنهج لتقويض النسيج الاجتماعي في منطقة باراشنار، التي تُعدّ نموذجاً فريداً للتعايش الطائفي والعرقي بين الشيعة والبشتون والسنة على مر العقود.
ويشير الخبير إلى الأبعاد المتشعبة لهذه القضية، موضحاً أن المستفيد الأكبر من هذا المشهد المضطرب هي الولايات المتحدة الأمريكية، التي تسعى بشكل حثيث لزعزعة الاستقرار الإقليمي وإعادة تشكيل خريطة النفوذ في المنطقة، ويؤكد أن العمليات الإرهابية التي تنفذها حركة طالبان باكستان، ما هي إلا انعكاس مباشر للدعم الاستخباراتي الأجنبي.
ويوجّه باقري تحذيراً صريحاً لجهاز الاستخبارات الباكستاني (ISI)، مشدداً على أن الرهان على الثقة بالولايات المتحدة، سيؤدي حتماً إلى تصاعد العمليات الإرهابية التي تستهدف المؤسسات العسكرية والأمنية الباكستانية.
وفيما يتعلق بمستقبل المشهد السياسي والأمني، يستبعد الخبير بشكل قاطع إمكانية التوصل إلى تسوية بين حركة طالبان والمؤسسة العسكرية الباكستانية، محذراً من أن أي مفاوضات ستُعدّ بمثابة اعتراف رسمي بحركة طالبان باكستان (TTP)، وهو ما يمثّل هدفها الاستراتيجي الأساسي، ويفسر ذلك التصعيد الملحوظ في عملياتها بالمناطق الحدودية في إقليم خيبر بختونخوا.
وفي تطور لافت، أبدت حركة طالبان الأفغانية استعدادها للعب دور الوساطة، وخاصةً في ظل اتهامات باكستان لها بالتقصير في ضبط عناصر تحريك طالبان المتواجدين على الأراضي الأفغانية، ويضع الخبير الحكومة الباكستانية أمام معادلة صعبة: إما القبول بالتفاوض والرضوخ للمطالب، أو مواجهة تصعيد مستمر في العمليات الإرهابية.
ومن العوامل المحورية في استمرار الأزمة، يبرز التحالف الاستراتيجي بين الجماعات البلوشية المتطرفة والحركة، سواء كان هذا التحالف تكتيكياً مؤقتاً أو استراتيجياً طويل المدى، كما يشير إلى خطورة الجماعات الإسلامية في البنجاب والسند، التي رغم محدودية عددها، تشكّل تهديداً استراتيجياً يثير قلق الحكومة الباكستانية.
ويضيف السيد باقري برؤية استشرافية متشائمة بأنه يتوقع تصاعداً في وتيرة العمليات الإرهابية، داعياً الحكومة الباكستانية إلى إيلاء اهتمام استثنائي بإقليم بلوشستان، ويؤكد أن سياسات التنمية غير المتوازنة والتهميش المنهجي الذي عانى منه الإقليم، قد دفع شريحةً من سكانه نحو تبني مواقف داعمة لحركة طالبان باكستان.
دور المدارس الدينية الوهابية
وفي تحليل للمشهد الباكستاني، يقدّم السيد باقري رؤيةً تتمحور حول محورين رئيسيين:
المحور الأول: المنظومة التعليمية الدينية والتحدي الأمني
يطرح باقري إشكاليةً جوهريةً تتعلق بالضوابط الأمنية، محذراً بحزم من مخاطر التساهل مع التيارات الفكرية المنحرفة، وعلى رأسها الفكر الوهابي، الذي يشكّل الحاضنة الفكرية لحركة طالبان باكستان. ويشير إلى المعضلة التي تواجهها السلطات الباكستانية في محاولاتها لضبط المدارس الدينية، نتيجة السياسات المتساهلة السابقة التي منحت حريةً مطلقةً للنشاط الدعوي المتطرف، ما خلق واقعاً معقداً يصعب تداركه.
المحور الثاني: الاستراتيجية الأمريكية والدعم اللوجستي
يكشف باقري عن الدور المحوري للدعم العسكري الغربي، وتحديداً الأمريكي، في تمكين الأيديولوجيات المتطرفة في باكستان والمنطقة، ويستدل على ذلك بالتصاعد غير المسبوق في العمليات الإرهابية خلال العام الجاري، محذراً من تداعياته الخطيرة على الأمن الإقليمي، ويقدّم تحليلاً للبعد الأيديولوجي، موضحاً كيف تسعى حركة طالبان باكستان لاستنساخ نموذج الإمارة الإسلامية في إقليم خيبر بختونخوا، متأثرةً بتجربة طالبان أفغانستان.
التحالفات الاستراتيجية والدعم العسكري
يرصد الخبير ظاهرة التحالف الاستراتيجي بين الجماعات المتطرفة تحت مظلة حركة طالبان باكستان، مسلطاً الضوء على امتلاك هذه الجماعات لترسانة عسكرية متطورة تتفوق على قدرات الجيش الباكستاني النظامي، ما يؤكد وجود دعم أمريكي مباشر ومنظم.
الأبعاد الجيوسياسية والتداعيات المستقبلية
يختتم باقري تحليله برؤية استشرافية خطيرة، معتبراً أن التقاعس الرسمي الباكستاني في حماية الأقلية الشيعية، يندرج ضمن استراتيجية أمريكية أوسع لإعادة تشكيل المنطقة، ويربط هذا المخطط بمشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي يستهدف تفكيك النسيج الاجتماعي والسياسي للدول، بدءاً من سوريا، مروراً بلبنان والعراق وإيران، وصولاً إلى باكستان.
ويؤكد أن المؤسسة العسكرية الباكستانية، سواء عن وعي أو غير وعي، تساهم في تنفيذ المخطط الأمريكي من خلال سياسة الصمت المريب تجاه الاستهداف المنهجي للشيعة في باراشنار وكويتا والمناطق الأخرى، ما يسهّل عملية تفكيك الدولة الباكستانية وفقاً للرؤية الاستراتيجية الأمريكية.