الوقت - في إطار جولته الإقليمية المكثفة، حطّ وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، رحاله في القاهرة، مختتماً بذلك سلسلة مباحثاته الدبلوماسية في المحطة المصرية.
تكتسب هذه الزيارة أهميةً بالغةً، إذ تأتي عقب زيارات عراقجي لكل من الدوحة والرياض، في مسعى لنقل رسائل دبلوماسية حساسة في خضم تصاعد التوترات الإقليمية، وقد أشارت مصادر إعلامية إلى أن الوزير الإيراني يحمل في جعبته رسالةً خطيةً من الرئيس مسعود بزشكيان، تتضمن تفاصيل الجهود الإيرانية الرامية إلى تهدئة الأجواء الإقليمية المشحونة.
ومن المرتقب أن يعقد عراقجي لقاءات رفيعة المستوى في القاهرة، تشمل الرئيس عبد الفتاح السيسي، ورئيس جهاز المخابرات العامة عباس كامل، بالإضافة إلى نظيره المصري، وزير الخارجية بدر عبد العاطي.
وفي تحليل للمشهد، صرّح الخبير في الشؤون الدولية، السيد حسن هاني زاده، لموقع "الوقت" قائلاً: "إن الجولة الدبلوماسية المكوكية التي يقوم بها الدكتور عراقجي، والتي شملت لبنان وسوريا، مروراً بقطر والسعودية، وصولاً إلى مصر، تجسد بوضوح الدبلوماسية الإيرانية النشطة والفاعلة، وهذه التحركات تهدف إلى تعزيز التعاون والتنسيق مع محور المقاومة، وستترك بصمةً واضحةً على مسار التقارب الإقليمي بين إيران والدول العربية في المنطقة".
ونظراً للثقل الاستراتيجي لمصر كقوة عربية رئيسية ودورها المحوري في معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي، وفي ضوء مسار التعاون الذي انتهجته القاهرة مع الكيان الصهيوني على مدى العقود الماضية، يسعى السيد عراقجي، خلال زيارته الراهنة، إلى تقديم تشريح دقيق للانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها هذا الكيان بحق الشعبين الفلسطيني واللبناني، ويهدف من وراء هذا المسعى الدبلوماسي، إلى استثمار النفوذ المصري الراسخ في أروقة جامعة الدول العربية ومجلس التعاون.
وفي سياق التكهنات المثارة حول فحوى الرسالة الإيرانية الموجهة إلى الدول العربية في المنطقة، أدلى هاني زاده بتصريح قائلاً: "من المنطقي أن يكون السيد عراقجي قد حمل رسالةً ذات مغزى عميق إلى كل من المملكة العربية السعودية وقطر، بل إلى سائر دول المنطقة، مفادها ضرورة الامتناع عن فتح مجالاتها الجوية أمام الطائرات الإسرائيلية أو الأمريكية المعادية لإيران، فمن المؤكد أن طهران ستتخذ موقفاً حازماً وصارماً، وستوجّه رداً قاسياً لأي دولة تتعاون مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة في هذا الصدد".
وأضاف هذا الخبير في الشؤون الإقليمية: "للأسف الشديد، انخرطت بعض الدول العربية في المنطقة في مسار تعاوني مع الكيان الصهيوني إبان العدوان على غزة، وتجلى ذلك بشكل خاص في عملية "الوعد الصادق 2"، حيث تورطت بعض الدول الإقليمية في رصد وإسقاط الصواريخ الإيرانية الموجهة نحو الأراضي المحتلة، وهذا السلوك يرقى إلى مستوى التواطؤ مع الكيان الصهيوني في المجزرة المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وقد وضعت إيران هذا الأمر في صميم اعتباراتها الاستراتيجية، وستتخذ إزاءه رداً حاسماً وقوياً".
وفي سياق تحليله لأهمية الزيارة الدبلوماسية التي قام بها السيد عراقجي إلى القاهرة، تناول هذا الخبير المكانة التاريخية الفريدة لمصر في معادلة القضية الفلسطينية، وما تعقده الأمة الإسلامية من آمال عريضة على هذا البلد العريق.
وقد صرّح قائلاً: "إن مصر، بما تمثّله من ثقل استراتيجي كدولة عربية عظمى، وما تتمتع به من موقع جيوسياسي بالغ الأهمية على ضفاف البحر المتوسط والبحر الأحمر، إضافةً إلى حدودها المتاخمة لفلسطين المحتلة، ناهيك عن ثقلها الديموغرافي الهائل، قد تبوأت مكانةً محوريةً لا يُستهان بها ضمن المنظومة العربية الإقليمية، وعليه، فإن الأنظار تتجه صوب القاهرة، متطلعةً إلى دور مصري رادع ومؤثر في مجريات الأحداث الراهنة".
وفي هذا المضمار، وعلى الرغم من المساعي المصرية الحثيثة لإرساء هدنة في قطاع غزة على مدار العام المنصرم منذ اندلاع عملية طوفان الأقصى، ومشاركتها الفاعلة في سبعة عشر جولة من المفاوضات بين الأطراف المعنية بأزمة غزة - والتي تعثرت جميعها بفعل العراقيل الإسرائيلية المتعمدة - إلا أن الآمال لا تزال معقودةً على أن تنحاز مصر، بثقلها التاريخي والاستراتيجي، إلى صف محور المقاومة، ولعل ما يعزّز هذه التوقعات هو الإرث التاريخي للصراع المصري-الإسرائيلي على مدى العقود السبعة المنصرمة، وما تكبدته مصر من خسائر فادحة جراء الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.
بيد أن ما يثير الأسى أن مصر، بتوقيعها على اتفاقية كامب ديفيد - التي وُصمت بالعار - قد نأت بنفسها عن جبهة الصمود العربي، واتخذت موقفاً يتسم بالحياد إزاء التطورات الإقليمية المتسارعة، بل إن المراقب ليلحظ، في بعض المواقف، التزامها الصمت حيال الفظائع التي يرتكبها الکيان الصهيوني، وفي ضوء ذلك، فإن العالم الإسلامي يتطلع، بكل ما أوتي من رجاء، إلى أن تبادر مصر إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، على الأقل في خضم هذه الظروف الاستثنائية الراهنة.
أما فيما يخص الأردن، فإنه يتحتم عليه، باعتباره دولةً يتحدر ما يربو على ستين بالمئة من نسيجه السكاني من أصول فلسطينية، أن يضطلع بدوره الرادع والفاعل في مواجهة التعنت الإسرائيلي، وما يبعث على الأسف الشديد أن هذين البلدين الشقيقين لم يبادرا، حتى هذه اللحظة، إلى تقديم الدعم الملموس للشعب الفلسطيني المكلوم، بل على النقيض من ذلك، فقد ساهما - للأسف - في إحباط المحاولات البطولية لمحور المقاومة في استهداف الكيان الصهيوني بالصواريخ الباليستية.
لکن من منظور آخر تجدر الإشارة إلى أن الزيارة الدبلوماسية رفيعة المستوى التي يقوم بها وزير الخارجية الإيراني إلى القاهرة، تأتي في سياق بالغ الدقة، إذ تفتقر العلاقات بين البلدين إلى الطابع الرسمي على الصعيد السياسي، وقد شهدت الآونة الأخيرة مساعٍ دؤوبة لإحياء أواصر العلاقات الدبلوماسية بين طهران والقاهرة، وإن كانت هذه الجهود تسير بوتيرة متأنية في إطار المباحثات الحكومية الجارية على أعلى المستويات.
وفي هذا السياق، تحدث الخبير الدبلوماسي البارز السيد هاني زاده حول مسار هذه المفاوضات في ضوء زيارة السيد عراقجي للقاهرة، حيث قال: "في واقع الأمر، نحن إزاء توجهين متباينين في صميم الدولة المصرية، يتسببان في إبطاء عملية تبادل السفراء، واستكمال مسيرة إعادة العلاقات الرسمية بين طهران والقاهرة إلى سابق عهدها، فمن ناحية، تتبنى وزارة الخارجية المصرية رؤيةً مفادها بأن إيران تمثّل قوةً إقليميةً ذات ثقل وتأثير لا يُستهان به، وأن إقامة علاقات وطيدة معها يعدّ ضرورةً ملحةً في ظل المتغيرات الجيوسياسية الراهنة.
وفي المقابل، تذهب بعض الأجهزة الأمنية المصرية إلى تبني موقف أكثر تحفظاً، مستندةً في ذلك إلى اعتبارات تتعلق بالتركيبة المذهبية الفريدة لإيران، والقبول الواسع الذي يحظى به مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في أوساط الشعب المصري، وترى هذه الأجهزة أن إقامة علاقات وثيقة وفتح باب التبادلات الشعبية على مصراعيه بين البلدين، قد يفضي إلى تداعيات غير محسوبة على النسيج الاجتماعي والديني لمصر، الأمر الذي قد يضع الحكومة المصرية أمام تحديات جمة.
ونتيجةً لهذا التباين في الرؤى، ظلّ هذان التوجهان في حالة تجاذب مستمر، ما أفضى إلى استمرار العلاقات بين طهران والقاهرة في مستواها الأدنى، متمثلاً في مكتب رعاية المصالح، وهو ما يمثّل الحد الأدنى من التمثيل الدبلوماسي المتعارف عليه دولياً.
وما يثير الأسف أن هذا الوضع يستمر على الرغم من المكانة المرموقة التي تتبوؤها كل من إيران ومصر كدولتين محوريتين في العالم الإسلامي، ولا شك أن إقامة علاقات متوازنة ومتينة بينهما، من شأنه أن يفتح آفاقاً واسعةً للتعاون المثمر في معالجة العديد من القضايا الملحة، التي تواجه الأمة الإسلامية في عصرنا الراهن.