الوقت - إن احتمالية تحول بوصلة الآلة الحربية الإسرائيلية من غزة نحو لبنان، كانت محل تمحيص وتحليل من قبل الخبراء والمحللين الإعلاميين منذ أشهر، ولا سيما في ظل التهديدات المتواترة الصادرة عن أركان الحكومة الإسرائيلية المتطرفة.
وانطلاقاً من هذا السيناريو المحتمل، فإنه من المؤكد أن غرف العمليات ومراكز الدراسات الاستراتيجية في جبهة المقاومة، قد وضعت التدابير اللازمة لمواجهة شتى الاحتمالات والأبعاد المرتبطة بهذا التصعيد مع إعداد التكتيكات والاستراتيجيات المتكاملة لكل سيناريو متوقع.
في هذا السياق الدقيق، تبرز سوريا كأحد اللاعبين الرئيسيين في محور المقاومة، حيث يُتوقع أن يتعاظم دورها مع تصاعد وتيرة الأحداث في لبنان، ولهذا السبب الجوهري، نلحظ في الآونة الأخيرة توجيه رأس حربة الحرب النفسية الإعلامية للکيان الإسرائيلي صوب دمشق، بهدف تحييد سوريا قدر المستطاع عن مجريات الصراع، وتصوير جبهة الدعم للمقاومة كركيزة غير مستقرة وغير جديرة بالثقة بالنسبة لحزب الله والشعب اللبناني.
تشمل بعض أوجه الحرب النفسية الأخيرة الموجهة ضد سوريا، وخاصةً في أعقاب استشهاد الأمين العام لحزب الله، مزاعم وافتراءات غرف التفكير الإعلامية المعادية حول اختراق عملاء الموساد لصفوف حزب الله عبر الجيش السوري، والتشكيك في موقف دمشق المتحفظ في دعم لبنان عقب اغتيال الشهيد السيد حسن نصر الله، فضلًا عن ادعاءات عدم رغبة الرئيس بشار الأسد في الانخراط في الصراع اللبناني، خشية تأثيره السلبي على مسار تطبيع العلاقات السورية مع المحيط العربي، بل وصل الأمر إلى حد الادعاءات السخيفة بوجود علاقات وثيقة وتنسيق خفي بين الأسد ونتنياهو.
إن المزاعم الهشة المطروحة في شتى ميادين الحرب النفسية تتهاوى أمام التمحيص الدقيق، وتنهار بمجرد مواجهتها بالحقائق الدامغة، يكفي أن نستحضر الرواية الموثقة التي أدلى بها كبار المسؤولين السوريين وقادة المقاومة البارزين في المنطقة، كالشهيد السيد حسن نصر الله والشهيد اللواء قاسم سليماني.
فقد كشفوا أنه إبان اندلاع الأزمة الداخلية في سوريا، تلقى الرئيس بشار الأسد رسائل من دول المحور العربي-الغربي، تفيد بأن الطريق الوحيد لوقف المدّ الإرهابي وإعادة الاستقرار إلى سوريا، يكمن في فك ارتباط النظام بمحور المقاومة، مقابل ضمانات ببقاء حكم الأسد.
في المشهد الراهن، وقد استعادت سوريا عافيتها واستقرارها بشكل كامل، ومع مبادرة الدول العربية ذاتها لترميم علاقاتها مع دمشق، نجد أن سوريا قد عززت، في أعقاب الأزمة، تحالفها الاستراتيجي مع قوات جبهة المقاومة، وذلك في إطار سياسة محكمة لتدعيم الحزام الأمني المحيط بالأراضي المحتلة، ووضع الكيان الصهيوني في مأزق جيوستراتيجي محكم.
وتشير التقديرات إلى وجود ما يربو على 40 ألف مقاتل من قوات المقاومة، بما فيها فيالق فاطميون وزينبيون وقوات حزب الله وغيرها، على الأراضي السورية، وعليه، فإن أي حديث عن وهن في أواصر العلاقة بين سوريا والمقاومة، يفتقر إلى أدنى قيمة تحليلية أو مصداقية استراتيجية.
لذا، ينصبّ تركيز هذا التقرير على تحليل عميق للأهمية الجيوستراتيجية الحقيقية لموقع سوريا في خضم الحرب اللبنانية الراهنة، مستندًا إلى الدور المحوري المنوط بها ضمن منظومة تقسيم العمل في إطار عقيدة "وحدة الساحات" التي يتبناها محور المقاومة.
تتجلى الأهمية الجيوستراتيجية الفريدة لسوريا في المشهد الإقليمي والدولي، من خلال ثالوث استثنائي: موقعها المحوري في قلب الشرق الأوسط، إطلالتها على الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط بشريط ساحلي يمتدّ لـ183 كيلومتراً، وتماسها الجغرافي مع فلسطين المحتلة ولبنان وتركيا والعراق.
وإلى جانب هذا البعد الجيوسياسي الفريد، فإن النسيج التاريخي للعلاقات - أو بالأحرى المواجهة - بين سوريا وظاهرة نشأة الكيان الصهيوني، قد نُسج بخيوط من الصراع المستمر والعداء المتجذر، وقد شكّل الحفاظ على توازن الردع - عبر تعزيز القدرات العسكرية ونسج تحالفات إقليمية مناهضة للصهيونية - حجر الزاوية في الاستراتيجية السياسية والعسكرية السورية، في مواجهة هذا الكيان على مدى سبعة عقود.
وعليه، فإن تضافر العاملين الجيوسياسي والهوياتي التاريخي، قد صاغ المكانة المحورية لسوريا في مسار التطورات المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي (القضية الفلسطينية)، ونظراً لكون القضية الفلسطينية ومقاومة الاحتلال تشكّل المحور الجامع لقوى المقاومة، فإن سوريا تُعدّ بمثابة الشريان الحيوي والممر الاستراتيجي للترابط الجغرافي، وبالتالي استكمال النسيج الجغرافي لمحور المقاومة، کما تضطلع سوريا، بصفتها حليفاً استراتيجياً، بدور محوري في المنظومة الأمنية لإيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية.
والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه الآن هو، هل ارتقى الدور السوري إلى مستوى أهميته ومكانته المحورية في استراتيجية المقاومة، لإحباط المخططات العسكرية والسياسية للكيان الصهيوني في حربي غزة ولبنان؟
لقد اضطلعت سوريا، شأنها شأن الأركان الأخرى في محور المقاومة، بدور داعم للمقاومة الفلسطينية خلال حرب غزة على وجه الخصوص، وقد تعرضت الأراضي السورية مراراً لاعتداءات جوية من قبل الكيان الصهيوني خلال هذه الحرب، وكان أبرزها الاعتداء الغاشم على القنصلية الإيرانية في دمشق عام 2024.
لا ريب أن الهاجس الأكبر للكيان الصهيوني من جانب الدولة السورية، يتمثّل في الخشية من انفتاح جبهة حربية في الجولان، وفي هذا المضمار، شهدت جبهة الجولان على مدار العام المنصرم، تعزيزاً ملحوظاً لوجود قوى محور المقاومة جنباً إلى جنب مع القوات السورية النظامية.
ويناقض هذا التطور بشكل صارخ ما سعى إليه الكيان الصهيوني حثيثاً طوال فترة الأزمة الداخلية في سوريا، حيث أبرم سلسلةً من الاتفاقيات والترتيبات الأمنية متعددة الأطراف، بمشاركة الولايات المتحدة وحتى روسيا، في محاولة لمنع مثل هذا السيناريو، بيد أن المستجدات الراهنة قوّضت طمأنينة الكيان إزاء الوضع في جبهة الجولان خلال العدوان على غزة، ما يعكس الاستراتيجية ذاتها التي يتبناها حزب الله في الجبهة الشمالية للأراضي المحتلة.
من منظور آخر، تشكّل سوريا حلقةً محوريةً في استراتيجية الضغط المباشر التي تنتهجها فصائل المقاومة في المنطقة تجاه الولايات المتحدة، بهدف كبح جماح آلة الحرب الصهيونية، وفي هذا السياق، استحالت القواعد الأمريكية المتعددة في العراق وسوريا، إلى أهداف عسكرية لقوى المقاومة على مدار العام الفائت.
ومن المنطقي الاستنتاج أنه لو لم تكن لدى القيادة السورية نية للتدخل في مجريات الحرب على غزة، لما انتهجت مسار المواجهة مع القوات الأمريكية، علاوةً على ذلك، تضطلع سوريا بدور محوري باعتبارها المركز اللوجستي الرئيسي للمقاومة في عملية تسليح الضفة الغربية، والتي تتم بتنسيق وثيق مع خلايا المقاومة المنبثقة من القبائل الأردنية لتأمين تدفق الأسلحة.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى التباين الجوهري بين حرب الكيان الصهيوني ضد غزة وتلك التي يشنها ضد لبنان، من حيث الجغرافيا العسكرية والموقع الجيوستراتيجي.
فغزة، بحكم موقعها الجغرافي، تقبع تحت حصار محكم من قبل الكيان، ما يضفي على الحرب طابعاً حضرياً وشوارعياً بحتاً، وقد صيغت الاستراتيجية الحربية والقدرات العسكرية الرئيسية لحركة حماس - وعلى رأسها الاكتفاء الذاتي في إنتاج الأسلحة كالصواريخ المتنوعة والقذائف المضادة للدروع من طراز ياسين 105، فضلاً عن شبكة الأنفاق تحت الأرضية المعقدة - على أساس هذا الواقع الميداني الفريد، وتم تطويرها وفقاً لمقتضياته.
لکن الجغرافيا اللبنانية تتميز بخصائص فريدة تتباين جذريًا عن نظيرتها في غزة، سواء من حيث الإطلالة البحرية، أو شبكة الاتصالات الجوية، أو الحدود البرية مع سوريا، وهذا التفرد الجيوستراتيجي يمنح سوريا مساحةً أرحب للتأثير في ديناميكيات الصراع بين حزب الله والكيان الصهيوني، وذلك وفقًا لمنظومة توزيع الأدوار ضمن محور المقاومة، وسيناريوهات المواجهة المرتكزة على استراتيجية وحدة الساحات.
لقد أثبت حزب الله بما لا يدع مجالًا للشك امتلاكه لترسانة عسكرية متطورة وقوات نخبوية ذات كفاءة قتالية عالية، ما يجعله في موقع متفوق لصدّ أي توغل بري للجيش الصهيوني وإلحاق خسائر فادحة بقواته المنهكة، بيد أن أي قوة عسكرية، مهما بلغت قدراتها، تظلّ بحاجة ماسة إلى منظومة لوجستية متينة، لضمان استدامة خطوط الإمداد في خضم المعارك.
في عصر الحروب الهجينة، حيث تتمازج التهديدات التقليدية مع التحديات السيبرانية والذكاء الاصطناعي والطائرات المسيرة، يغدو تأمين سلسلة الإمداد ركيزةً استراتيجيةً لا غنى عنها، وهنا تبرز أهمية سوريا كحلقة وصل حيوية بين إيران والعراق ولبنان، مشكِّلةً بذلك شريانًا لوجستيًا يمثّل عمقًا استراتيجيًا للمقاومة في حال اندلاع مواجهة برية مع الكيان الصهيوني.
وعليه، فبينما تتمحور استراتيجية المقاومة حول استدراج العدو إلى حرب استنزاف، وتحويل ساحة المعركة إلى مستنقع للقوات البرية، يبرز الدور اللوجستي السوري كعنصر محوري في معادلة المواجهة، وهذا الدور الذي تتبناه دمشق بكل ثقل، يشكّل عاملًا حاسمًا في تقويض الحرب النفسية التي تشنها الجبهة الغربية-الصهيونية-العربية، ويرسّخ أسس توازن استراتيجي جديد في المنطقة.