الوقت - إن تمادي الكيان الصهيوني في ارتكاب جرائمه الوحشية بحق قطاع غزة، محولًا إياه إلى أطلال، قد ألقى بمسؤولية جسيمة على عاتق الأمة الإسلامية لكبح جماح آلة القتل الصهيونية بأقصى سرعة.
وفي ظل ذكرى المولد النبوي الشريف، المعروفة بأسبوع الوحدة، تتهيأ فرصة ذهبية للأمة الإسلامية لتوطيد أواصر التعاون فيما بينها، وإعادة تسليط الأضواء العالمية على القضية الفلسطينية، مؤكدةً أن قضية القدس الشريف لا تزال في صدارة أولويات سياساتها.
وفي هذا السياق، انعقد المؤتمر الدولي الثامن والثلاثون للوحدة الإسلامية تحت شعار "التعاون الإسلامي لتحقيق القيم المشتركة مع التركيز على القضية الفلسطينية" يوم الخميس الفائت، بمشاركة وفود رفيعة المستوى من الدول الإسلامية في قاعة مؤتمرات القمة بطهران.
وفي هذا المحفل الجامع، أكد المشاركون أن التضافر السياسي والاقتصادي هو السبيل الأمثل لنهضة الأمة الإسلامية، مشددين على أن تعزيز الوحدة بين المسلمين، يتأتى من خلال ترسيخ مبادئ الاحترام المتبادل والتعاون البنّاء.
في خضم الحرب المستعرة على غزة، انعقد مؤتمر هذا العام ليبرز الالتحام الإسلامي في نصرة القضية الفلسطينية، كمحور أساسي أجمع عليه كل ممثلي الأمة الإسلامية، وقد أدان المشاركون في مؤتمر الوحدة الإسلامية بأشد العبارات، الجرائم الهمجية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في إبادته الممنهجة لأهل غزة الصامدين، داعين إلى تضافر الجهود بين الشعوب في مواجهة الغطرسة الصهيونية.
يأتي انعقاد هذا المؤتمر الإسلامي في لحظة تاريخية فارقة، حيث يتطلع الشعب الفلسطيني، الرازح تحت وطأة الظلم والقهر منذ عقود، إلى دعم شامل وحاسم من الدول الإسلامية ليواصل مسيرته النضالية بعزيمة لا تلين نحو تحرير أراضيه المغتصبة.
وفي ظل الأهداف السامية للمؤتمر الإسلامي، الذي يُعقد سنويًا لتعزيز أواصر الوحدة بين المسلمين، فإن تكاتف العالم الإسلامي، بمشاركة 57 دولة وقرابة ملياري نسمة، يمكن أن يشكّل قوةً ضاربةً في دعم الفلسطينيين، والإيقاف الفوري لآلة القتل الإسرائيلية في غزة، ولا سيما في هذه اللحظات العصيبة التي يستصرخ فيها أهل فلسطين في غزة والضفة الغربية ضمير العالم.
وعلى الرغم من تباين وجهات النظر بين بعض الدول الإسلامية حول قضايا شتى، إلا أن القضية الفلسطينية تظلّ محل إجماع راسخ، فالدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة ذات السيادة، يمثّل الرابط الذي يجمع المسلمين قاطبةً، وهذا العامل بحد ذاته يشكّل المحرك الأساسي ونقطة الارتكاز لتحقيق تطلعات القدس الشريف.
من بين العوامل التي أججت جرأة الكيان الصهيوني في شن حملته الوحشية ضد أهالي غزة، يبرز الصمت المخزي لبعض الدول العربية المتخاذلة، فبدلاً من الانتصار لقضية الشعب الفلسطيني النبيلة، تقدّم هذه الدول - في الخفاء - دعمها للکيان الإسرائيلي، ولو تضافرت جهود الأمة الإسلامية وتوحدت صفوفها، لوجد الكيان الصهيوني نفسه محاصراً بين أسوار من العزة والكرامة، ولن يكون أمامه من سبيل سوى الرضوخ والاستسلام.
وفي هذا السياق، جاءت كلمات الشيخ شمس الدين شرف الدين، مفتي الديار اليمنية، في المؤتمر الإسلامي كصيحة مدوية، حيث ناشد الدول العربية قائلاً: آن الأوان لكسر جدار الصمت المخزي إزاء الجرائم الإسرائيلية، واتخاذ خطوات حاسمة وجريئة للتصدي لهذا الکيان الغاشم.
وفي ظل الظروف المأساوية التي يرزح تحت وطأتها أهل غزة الصامدون، لم يعد مقبولاً أن تقف الحكومات الإسلامية موقف المتفرج إزاء ما يجري على أرض فلسطين، فكل لحظة صمت في وجه هذه الجرائم النكراء، تعدّ خيانةً عظمى لقضية القدس.
خيارات العالم الإسلامي لردع تل أبيب
في ضوء تعدد الدول الإسلامية على الساحة الدولية، تتجلى أمامها مجموعة متنوعة من الخيارات الاستراتيجية لإرغام الكيان الصهيوني على وقف جرائمه في الأراضي المحتلة.
فالدول الإسلامية، بما فيها تلك التي تربطها علاقات تجارية جلية أو خفية مع الكيان الإسرائيلي، تمتلك القدرة على ممارسة ضغوط اقتصادية هائلة على تل أبيب، من خلال فرض عقوبات اقتصادية صارمة وحازمة.
ولقد برهنت التجارب السابقة أن غياب الإجراءات الرادعة الفعالة على الصعيد الدولي، لا يفضي إلا إلى تشجيع الکيان الذي يستبيح دماء الأبرياء، على المضي قدماً في ارتكاب جرائمه دون خشية من العقاب، وهو ما نشهده بجلاء في قطاع غزة خلال الأشهر الأخيرة.
ونظراً لكون العائدات الاقتصادية تشكّل أحد الأعمدة الرئيسية لتوسيع رقعة الاحتلال، فإن بوسع الدول الإسلامية قطع شريان الحياة عن هذا الكيان، ووضع حد لممارساته التوسعية الغاشمة.
إن مقاطعة منتجات حلفاء تل أبيب، تعدّ إحدى الأدوات الفعالة التي يمكن للدول الإسلامية توظيفها لإجبار الغرب على ممارسة الضغط على الكيان الإسرائيلي، فالسبب الجوهري وراء الجرائم الصهيونية في غزة، يكمن في الدعم المطلق واللامشروط الذي تقدّمه الولايات المتحدة والدول الأوروبية، والذي يشمل المساعدات العسكرية التي تطلق يد المحتلين لارتكاب المزيد من المجازر، ملطخةً أيديهم بدماء الشعب الفلسطيني.
وفي ظل الظروف الراهنة، حيث يقدّم العالم الغربي دعماً شاملاً للكيان الصهيوني، يتحتم على الدول الإسلامية أن تتحرك بشكل موحد ومتماسك، لتقف صفاً واحداً إلى جانب الفلسطينيين، فقد أظهر الغرب مراراً وتكراراً تنصله من كل المبادئ التي يدعي تبنيها تجاه القضية الفلسطينية، ولن يطرأ تغيير على هذا الموقف في المستقبل المنظور، وهذه إشارة جلية للدول الإسلامية كي لا تعوّل على وعود الغرب الزائفة في إقامة الدولة الفلسطينية، أو إنهاء الصراع المحتدم.
في الآونة الأخيرة، يسعى بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بدأب لا يكل إلى استقطاب الدول العربية نحو فلك التطبيع مع تل أبيب، بيد أن الرأي العام، في موقف راسخ، يناهض هذا المسعى بحزم، معتبرًا الانخراط في مسار التسوية بمثابة نكث للعهد مع القضية الفلسطينية، وتواطؤ مع من تلطخت أيديهم في تل أبيب بدماء الأبرياء.
وفي ظل هذا المشهد، وعلى وقع الموجة العالمية المتصاعدة المناهضة للممارسات الإسرائيلية، تتجلى فرصة سانحة للدول الإسلامية، فمن خلال اتخاذ مواقف حازمة وصارمة إزاء الفظائع الصهيونية المرتكبة في غزة، يمكن لهذه الدول أن تفرض عزلةً دبلوماسيةً على نظرائها العرب، الذين انزلقوا في السنوات الأخيرة نحو هاوية تطبيع العلاقات مع الصهاينة، متنكرين للقضية الفلسطينية، وهذا النهج من شأنه أن يرفع التكلفة السياسية والأخلاقية لأي محاولة مستقبلية لتكرار مثل هذا الانحراف عن البوصلة الأخلاقية والقومية.
وفي ضوء الثقل العددي والنوعي للدول الإسلامية في أروقة الأمم المتحدة، يتسنى للعالم الإسلامي ممارسة ضغوط دبلوماسية حثيثة على هذه المنظمة الدولية، الحارسة المفترضة للسلام العالمي، لإصدار قرارات رادعة ضد الكيان الإسرائيلي، ومن شأن مثل هذه الخطوات، أن ترفع التكلفة السياسية لهذا الکيان على الساحة الدولية بشكل غير مسبوق.
إن تضافر الدعم العالمي الجارف للشعب الفلسطيني، مقرونًا بإدانة دولية صارمة للکيان الصهيوني على الصعيد السياسي، سيفضي حتمًا إلى عزل هذا الكيان في المحافل الدولية، وعلى المدى البعيد، ستجد الدول الأخرى نفسها مضطرةً لإعادة تقييم جذري لسياساتها تجاه تل أبيب.
وفي هذا المنعطف التاريخي، يتجلى الكيان الصهيوني في صورة غير مسبوقة من الوهن والاضطراب، إذ يرزح تحت وطأة أزمات سياسية وأمنية داخلية تعصف بأركانه، کما أن تفاقم عزلته على الساحة الدولية، بات يشكّل وصمة عار لا تُمحى في جبينه، أما حلفاؤه الغربيون، الذين طالما تواطؤوا مع جرائمه ضد الشعب الفلسطيني على مدى سبعة عقود، فقد استغرقتهم اليوم دوامة من التحديات الداخلية المستعصية.
وفي خضم هذا المشهد، يتحتم على الأمة الإسلامية أن تنهض من سباتها، لتوثق عُرى وحدتها وتصهر صفوفها في بوتقة التعاون الاستراتيجي، کما أن تشديد الخناق على المحتلين بات ضرورةً ملحةً، بغية إرغامهم على الانكفاء والرضوخ للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
إن المعطيات الراهنة تشهد تحولاً جذريًا عن سابقاتها، ما يستدعي من الدول الإسلامية نهجًا مغايرًا، فعليها أن تنبري لتفعيل الآليات القانونية الدولية، مستنفرةً كل طاقاتها لمساءلة "إسرائيل" عن جرائمها النكراء بحق الفلسطينيين، فلو تكاتفت هذه الدول، موظفةً كل ثقلها الدبلوماسي وإمكاناتها الاقتصادية لنصرة القضية الفلسطينية، لأمكنها كبح جماح سياسات الاحتلال والتمييز العنصري التي ينتهجها الكيان الإسرائيلي.
ومن بين الخيارات الاستراتيجية الملحة، تبرز مسألة إحالة ملف الجرائم الإسرائيلية إلى المحكمة الجنائية الدولية كسلاح قانوني، فبوسع الدول الإسلامية توظيف هذه الآلية، لإجبار الکيان على وقف مجازره الوحشية في غزة. وهذا المسار القضائي الدولي، من شأنه أن يشكل رادعًا قويًا وضغطًا هائلاً على الكيان الصهيوني.
ففي مشهد قانوني غير مسبوق، شهدنا في الآونة الأخيرة كيف أن المبادرة القضائية الجريئة لجمهورية جنوب أفريقيا، والتي تمثلت في رفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد الكيان الصهيوني بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة، قد ألقت بظلالها الثقيلة على أروقة صنع القرار في تل أبيب، مثيرةً حالةً من الذعر والارتباك في صفوف قادتها.
إن هذه الخطوة تفتح آفاقًا واعدةً أمام العالم الإسلامي، فلو تضافرت جهود الأمة الإسلامية في دعم وتبني مثل هذه القضايا القانونية المناهضة للصهيونية، لأمكن تمهيد الطريق نحو محاكمة تاريخية لنتنياهو وزمرته من مجرمي الحرب، ولعل في إمكانية إصدار محكمة لاهاي لمذكرات اعتقال دولية بحق هؤلاء المجرمين، ما يشكّل رادعًا قويًا للحكومات الإسرائيلية المستقبلية، مجبرًا إياها على إعادة حساباتها في سياساتها الاستيطانية وممارساتها القمعية ضد الشعب الفلسطيني.
لقد أثبتت تجربة ستة وسبعين عامًا من الاحتلال الغاشم، أن الكيان الصهيوني لا يعير اهتمامًا للغة الدبلوماسية، ولا يفقه سوى منطق القوة الصارمة، وعليه، يتحتم على الدول الإسلامية أن تنتهج استراتيجيةً متعددة الأبعاد، تجمع بين الضغط الدبلوماسي والقانوني من جهة، والدعم العسكري والاستراتيجي للمقاومة من جهة أخرى.
وفي هذا السياق، يبرز تسليح الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية كخيار استراتيجي لا غنى عنه، بهدف تصعيد الضغوط الأمنية على الكيان الإسرائيلي، كما يتعين على الأمة الإسلامية تعزيز وتمكين جبهة المقاومة في المنطقة، لتشكيل حائط صدّ منيع في وجه هذا الکيان، وإحباط مخططاته التوسعية.
لقد جاءت عملية "طوفان الأقصى" البطولية التي نفذتها حركة حماس، لتبرهن بما لا يدع مجالاً للشك أن هزيمة الکيان الصهيوني ليست ضربًا من الخيال، بل هي واقع ممكن التحقيق، شريطة توفير الدعم العسكري الشامل والمتطور لفصائل المقاومة.