الوقت- الاستهداف الممنهج للمنظومة الصحية في غزة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي جعله يتفوق في إرهابه على كل نزاعات وحروب العالم في التاريخ القديم والحديث، فأخرج 34 مستشفى في القطاع عن الخدمة وكان القصف المباشر والمركّز على المستشفيات والمراكز الطبية بالإضافة لحرمان المستشفيات من الكهرباء والوقود اللازم لتشغيل المولدات، واستهداف الفرق الطبية وسيارات الإسعاف بشكل مباشر، جزء واضح من خطة تسريع عملية التهجير والإبادة الجماعية للمدنيين في القطاع.
جزء من خطة التهجير
أدى القصف الإسرائيلي المستمر بالطائرات والأسلحة الثقيلة إلى خروج كل المستشفيات تقريبا في شمال قطاع غزة عن الخدمة خلال أقل من شهر من العدوان، وكانت الأدلة واضحة على أن الهجمات المتكررة على المرافق الطبية وفي محيطها مقصودة ومخطط لها.
حيث إنه بعد يومين فقط من بداية الحرب، خرج مستشفى بيت حانون في شمال غزة عن الخدمة، تلاه أمر من الجيش الإسرائيلي بإخلاء المستشفيات من المرضى والعاملين، وإفراغ المرافق الصحية المختلفة في مدينة غزة وشمالها، الأمر الذي رفضه العاملون في القطاع الصحي الذين أصروا على الاستمرار في تقديم الخدمات الطبية والطارئة، وتم دفع السكان إلى التوجه إلى جنوب القطاع في محاولة لتهجيرهم، وتباعاً تم قصف المستشفى المعمداني وتهديد محيط بعض مباني المستشفيات الأُخرى وتطويقها وقصفها، مثل مستشفى الشفاء، أكبر المشافي في القطاع، بالإضافة إلى مستشفى العودة والأندونيسي وغيرهما، في محاولات تكتيكية مستمرة لتفريغ المستشفيات والمرافق الطبية وإجبار الناس على النزوح والمغادرة.
وتحت وطأه الإجراءات الإسرائيلية، والإجراءات القمعية المتتابعة، واعتقال الطواقم، والقصف الممنهج، أُجبرت الطواقم العاملة في هذه المنشآت على النزوح، وجرى تقليص خدماتها بشكل كبير، ما شكل ضربة قاضية للمنظومة الطبية في مدينة غزة وشمالها، حيث تشكل هذه المستشفيات العامود الفقري للخدمات الطبية، وتخدم أكثر من ثلثي السكان لما تتمتع به من إمكانات فنية متخصصة لا يمكن توفيرها بسهولة في أماكن أُخرى في قطاع غزة، بسبب توافر الطواقم البشرية المتخصصة والتجهيزات والتقنيات الطبية المتقدمة.
وتواصلت الحرب على المشافي والمرافق الصحية في مختلف مناطق القطاع، من تهديد وإخلاء وقصف مباشر لها أو في محيطها وقنص العاملين فيها والتصدي لحركة سيارات الإسعاف وتلك التي تنقل المرضى والمصابين والجرحى، وفي مرحلة لاحقة تطويق مزيد من المستشفيات، وكان لأوامر القادة الإسرائيليين بمنع الماء والوقود والكهرباء والغذاء والإمدادات الطبية والإنترنت عن قطاع غزة أثرها الكارثي على المستشفيات والمراكز الصحية، الأمر الذي تسبب بتقويض عملها وجعلها في حالة انهيار وشلل تام، وبالحد من قدرتها على التعاطي مع الحالة الطارئة النامية والمتسارعة، وعلى الاستجابة لحاجات السكان الطبية والصحية الأساسية.
أعباء إضافية
ويلقي انهيار المنظومة الصحية، وعرقلة الوصول إلى المرافق الصحية والمشافي، وعدم توافر الأدوية والإمدادات الطبية، وصعوبة إجراء الفحوصات المخبرية، وانهيار البرامج الوقائية والتلطيفية، أعباء جسيمة على مرضى الأمراض غير السارية، والتي كانت تشكل قبل الحرب أصلاً عبئاً كبيراً على النظام الصحي فيما يتعلق بتقديم خدمات لأكثر من 350 ألف مريض يعانون من الأمراض القلبية الوعائية (مثل النوبات القلبية والسكتة الدماغية) والضغط، والسرطانات، والأمراض التنفسية المزمنة (مثل مرض الرئة الانسدادي المزمن والربو)، والسكري، أضف إلى كون هذه الأمراض هي المسبب الرئيسي للوفيات والاعتلال في قطاع غزة، ومن المرجح أن يتفاقم تواتر هذه الأمراض، وتتضاعف عواقبها ومشكلاتها، نظراً إلى أن أكثر من 80% من المرضى لا يجدون أدويتهم الأساسية، ولن يتمكنوا في المنظور القريب من الحصول على التدابير الطبية اللازمة والمتابعة الأساسية والرعاية التلطيفية، ما سيؤدي إلى تفاقم حالاتهم الصحية وهلاكهم التدريجي.
ومن المؤكد أن معدل الوفيات والإعاقة والعجز بين هذه الفئات سيتعاظم، ما يضع المنظومة الصحية أمام أعباء مضاعفة عند التعافي، كما أن إمكان السيطرة على عوامل الخطورة، وتغير الأنماط السلوكية، وإجراء الكشف المبكر، سيكون أمراً معقداً وغير ممكن في ظل الظروف المستجدة، من نزوح السكان، وعدم توافر الغذاء والماء، وتردي الظروف البيئية نتيجة الحرب والدمار، وعدم قدرة المنظومة وشللها، حتى إن الوضع الإنساني الكارثي الناشئ سيزيد من تواتر المراضة والخطر بين فئات جديدة من السكان.
انتهاك صارخ للقوانين الدولية
وتتنصل حكومة الاحتلال من القوانين والاتفاقيات والمواثيق الدولية بشكل فج ومستمر، بما في ذلك اتفاقيات جنيف التي أُقرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي تشكل أساس القانون الإنساني الدولي، وتنص "خصوصا على حماية المستشفيات المدنية".
وتشير اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في الـ 12 أغسطس/آب 1949، إلى أنه "لا يجوز بأي حال الهجوم على المستشفيات المدنية المنظمة لتقديم الرعاية للجرحى والمرضى والعجزة والنساء أثناء النفاس، وعلى أطراف النزاع احترامها وحمايتها في جميع الأوقات".
ووفقا للاتفاقية ذاتها "لا يعتبر عملا ضارا بالعدو وجود عسكريين جرحى أو مرضى تحت العلاج في هذه المستشفيات، أو وجود أسلحة صغيرة وذخيرة أخذت من هؤلاء العسكريين ولم تسلم بعد إلى الإدارة المختصة".
لكن قوات كيان الاحتلال، وبناء على ادعاءات ثبت بطلانها بوجود مقاتلين وأسلحة وغرف عمليات لحركة حماس في مستشفى الشفاء، قصفت المستشفى الأكبر في غزة قصفا متواصلا، مع وجود آلاف النازحين الذين لجؤوا إليه، ولم تقدم "إسرائيل" دليلا واضحا على ادعاءاتها، بل اضطرت إلى فبركة فيديوهات وصور كان تزييفها وتزويرها واضحين، وفندت معظم المنظمات الدولية تلك الادعاءات الإسرائيلية بوجود مقاتلين أو أسلحة أو أسرى ومحتجزين في المستشفيات.
وأشارت معظم المنظمات الدولية إلى أن ما حصل يعدّ جرائم حرب واضحة، وتبعا لذلك وردت تلك الانتهاكات الإسرائيلية في مرافعات ومناقشات محكمة العدل الدولية بوصفها أدلة وإثباتات في سياق قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد الكيان الغاصب.