الوقت- مؤخرا، شدد الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في مجلس الأمن الدولي على أن ما يحدث في غزة "يجب أن يُدان بالعبارات نفسها التي تُدين ما يحدث في أوكرانيا"، لأن ما يحدث في غزة ما هو إلا ذروة صراع خطير واستثنائي يحتدم بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ قرن تقريباً، وهذه أزمة إنسانية، وليست كارثة طبيعية، وليست فيضاناً أو زلزالاً، إنها كارثة من صنع الإنسان، وحول نقل المساعدات إلى غزة، أشار إلى أنه عندما نبحث عن بدائل للمساعدات عن طريق البحر أو الجو، يجب ألا ننسى أننا اضطررنا إلى ذلك لأن الوسائل الطبيعية للمساعدات عن طريق البر مغلقة بشكل مصطنع، حيث كشفت الحرب الإرهابية الإسرائيلية على غزة حجم النفاق والازدواجية الغربية أكثر، وفضحت سياسة الولايات المتحدة على مستوى العالم.
أوكرانيا ليست فلسطين
لا شك أن حديث مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي عما يحدث في غزة والقول إنه يجب أن يُدان بالطريقة نفسها التي أدين بها في أوكرانيا، يأتي مع دخول الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها السادس، وتفاقم معاناة سكان غزة، ولا سيما في الشمال والوسط، بسبب الحصار الشديد الذي أدى إلى نقص الغذاء إلى حد المجاعة، وفي محاولة للتخفيف من حدة هذه الأزمة، تتعاون الدول العربية وغيرها من الدول لمواصلة نقل المساعدات جواً إلى شمال قطاع غزة، إلا أنها لا تزال غير كافية ولا تلبي الاحتياجات العاجلة للسكان الفلسطينيين.
ومنذ الـ 7 من أكتوبر 2023، تشن قوات الاحتلال الإسرائيلي بدعم من الولايات المتحدة حربًا مدمرة على قطاع غزة، ما أسفر عن سقوط عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين، معظمهم من الأطفال والنساء، وكارثة إنسانية غير مسبوقة ودمار هائل في البنية التحتية، وتواجه تل أبيب الآن اتهامات بـ"الإبادة الجماعية" أمام محكمة العدل الدولية وقد أصبحت غزة الآن مدمرة بالكامل، ومن الحرب بين الكيان والفلسطينيين في غزة، إلى الحرب بين روسيا وأوكرانيا، إلى الصراع بين الصين وتايوان، تواجه السياسة الخارجية الأمريكية ثلاث معضلات خطيرة للغاية.
ويتساءل مراقبون عما إذا كانت الولايات المتحدة قد فشلت في مواجهة نصيبها من المسؤولية عن التسبب في هذه المشاكل الثلاث، أو أنها رفضت القيام بذلك، كما يقول، ولهذا الفشل أو الرفض تداعيات خطيرة على الجهود الرامية إلى تحقيق سلام دائم في مناطق النزاع الثلاث، ويقول بوتين إن روسيا قبلت عن طيب خاطر انهيار الاتحاد السوفييتي لأنها رأت فيه دعوة للتعاون والصداقة مع الغرب، أما في حالة أوكرانيا، فقد أسيل الكثير من الحبر على مدى مساهمة جهود التوسع التي قام بها حلف الناتو في العقود التي تلت الحرب الباردة في حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا.
أمريكا المسؤول الأول عن الجرائم
يؤكد الرد الأمريكي على الغزو الروسي أن صناع القرار في واشنطن تجاهلوا كل هذه الحجج، وبدلاً من ذلك، فإنهم يقبلون فرضية أن بوتين لم يتغلب أبدًا على كارثة انهيار الاتحاد السوفيتي وسعى إلى ضم أوكرانيا إلى روسيا بالقوة، هذا الافتراض يتجاهل إلى حد كبير الحقائق التاريخية والمنطقية التي تقول إن الغزو لم يكن حتميًا بل كان نتيجة لعوامل خارجية كثيرة، بما في ذلك تصرفات الولايات المتحدة، وحول "الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين"، ذكر بوتين أن موسكو "اعترفت بالواقع الجيوسياسي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وقد اعترفت روسيا بأوكرانيا وعرضت الكثير من المساعدة لمساعدتها على أن تصبح دولة مستقلة"، وأصبح الكثير من الناس في روسيا وأوكرانيا الآن أكثر استعدادًا لقبول استقلال أوكرانيا لأنهم يفترضون ويؤمنون بصدق أن الروابط الثقافية والروحية والاقتصادية بين البلدين ستستمر إلى الأبد.
وفي مقابلة تلفزيونية أجريت مؤخرًا مع تاكر كارلسون، كرر بوتين هذه الرواية، قائلًا إن روسيا "قبلت عن طيب خاطر وبشكل إيجابي انهيار الاتحاد السوفيتي لأنها رأت فيه دعوة للتعاون والصداقة مع الغرب"، وبالعودة إلى قضية تايوان، فإن التوترات المتصاعدة بين الجانبين عبر مضيق تايوان وتصريحات المسؤولين الصينيين وعلى رأسهم الرئيس شي جين بينغ بضرورة إعادة تايوان إلى السيادة الصينية، تشير إلى أن الرئيس شي عازم على إعادة توحيد الجزيرة خلال فترة حكمه، وإذا لزم الأمر، مهاجمة تايوان ومن الواضح أنه مستعد للقيام بذلك، ووفقًا لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، فإن القادة الصينيين "لم يعد بإمكانهم تحمل الوضع الراهن ويريدون تسريع عملية توحيد تايوان والبر الرئيسي للصين" وقد زادوا من الضغط على تايوان وهددوا باستخدام القوة لتحقيق ذلك.
وإن وجهة النظر الأمريكية تتجاهل أو تنكر حقيقة أن موقف الصين المتشدد هو رد فعل على التحركات والتصريحات التي تصدر عن كل من الولايات المتحدة وتايوان، ففي عهد الرئيسة التايوانية تساي إنغ ون، ومنذ عام 2016، تراجعت تايبيه بشكل تراكمي عن إطار "الصين الواحدة"، بما في ذلك التراجع عن الاتفاقات السابقة بين تايوان والبر الرئيسي للصين، وعلى الرغم من التزام واشنطن المعلن بمبدأ "صين واحدة"، مع استمرار واشنطن في تطوير علاقات "غير رسمية" مع تايبيه، بما في ذلك زيارة رئيس مجلس النواب الأمريكي لتايوان في أغسطس 2022 وتصريحات وزارة الدفاع الأمريكية بأن تايوان ذات أهمية استراتيجية للمصالح الأمريكية، فإن هذا الالتزام يفقد مصداقيته، وبعبارة أخرى، فإن هذه التطورات الأمريكية والتايوانية مسؤولة إلى حد كبير عن التوترات المتزايدة بين جانبي مضيق تايوان.
وبدلاً من تحمل المسؤولية عن ذلك، تفعل واشنطن مع حماس ما تفعله مع بوتين والقادة الصينيين، وتلقي باللوم في أزمة غزة عليهم وحدهم، وفي أعقاب الهجوم المسلح الذي شنته حركة حماس الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول على المستوطنات والبلدات الإسرائيلية في قطاع غزة والرد العسكري الإسرائيلي القوي والمستمر على المدنيين، تواجه الولايات المتحدة انتقادا دوليا وداخليا نتيجة سياساتها الرعناء في الشرق الأوسط.
وقد اتسع نطاق الصراع والعنف بالفعل من خلال هجمات الحوثيين في اليمن على السفن التجارية الغربية الداعمة لتل أبيب في البحر الأحمر والهجمات على القواعد العسكرية الأمريكية في سوريا والعراق، وعلى الرغم من تركيز واشنطن على مسؤولية حماس عن الصراع مع الكيان وتصاعد العنف، إلا أن غالبية الرأي العام العربي يرفض احتلال الكيان للأراضي الفلسطينية واستمرار الدعم الأمريكي لـ"إسرائيل"، ويروج لحل الدولتين الذي تقول واشنطن إنها تدعمه يُنظر إلى الدور الأمريكي من منظور.
في النهاية، وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخرًا حرب "إسرائيل" ضد الفلسطينيين في قطاع غزة بـ"القوة المفرطة"، لكن انتقاده لـ"إسرائيل" كان صريحًا وطفيفًا، وفي الوقت نفسه، تخاطر واشنطن في الوقت نفسه بالاستياء العربي من خلال دعم النهج الإسرائيلي، وبدلاً من تحمل المسؤولية عن الصراع، فإن واشنطن تفعل بحماس ما تفعله ببوتين وشي جين بينغ، وبالطبع، يتحمل بوتين وشي وحماس المسؤولية عن الأزمات في أوكرانيا وتايوان وغزة، لكن هذه المسؤولية لا تنفي مسؤولية واشنطن ودورها في تعقيد الأزمات الثلاث، وإن دعم واشنطن لإرهاب الكيان في قتل عشرات الآلاف من الأبرياء غير مقبول أبدا، وبالاستناد إلى طبيعة وحجم رد الفعل الإسرائيلي الإجرامي تتحمل واشنطن التي تزود الكيان بالسلاح كل المسؤولية وخاصة مع دعمها الكيان سياسيا، غير أن الأهم من ذلك هو حقيقة أن هجمات حماس هي نتيجة عقود من السياسة الإسرائيلية المتمثلة في إنكار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني واحتلال الأراضي الفلسطينية، وأن الولايات المتحدة سكتت عن هذه السياسات، بل ربما دعمتها من خلال دعمها المستمر والشامل لـ"إسرائيل".