الوقت - في العقد الماضي، كانت سوريا محط اهتمام القوى عبر الإقليمية أكثر من أي وقت مضى، ففي بداية الأزمة في سوريا، كانت هذه الدولة مسرحاً للمواجهة بين روسيا والغرب، لكنها أصبحت في الأشهر الأخيرة نقطة التقاء جديدة للصين والولايات المتحدة.
الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد وزوجته إلى الصين، والتي أسفرت عن توقيع اتفاقية "شراكة استراتيجية" بين البلدين، فتحت فصلاً جديداً في العلاقات بين بكين ودمشق، ما يدل على أن الصينيين يسعون للعب دور أكثر نشاطاً في سوريا.
لقد كانت الصين داعمةً للحكومة الشرعية في سوريا على مدى العقد الماضي، وجنباً إلى جنب مع روسيا، باستخدام حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أحبطت خطط الغرب ضد دمشق، والآن بعد أن ساد مناخ السلام النسبي هذا البلد، فقد حددت مصالحها بما يتجاوز العلاقات السياسية.
وكان موقف الصين من الحرب السورية موقفاً مبدئياً يتوافق مع مبادئ السياسة الخارجية للصين، وتوجهاتها الرافضة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، ولذلك، سعت بكين إلى وقف الحرب في سوريا، وطرحت العديد من المبادرات الهادفة إلى إيجاد مخرج للصراع هناك.
إن الصين التي تجهز نفسها لتصبح قوةً عظمى عالمية خلال العقدين المقبلين وتحتل المركز الاقتصادي الأول، تحاول تطوير علاقاتها مع الدول المعادية للغرب، وتحدي المخططات التدميرية للولايات المتحدة، وبسبب التصعيد الحاد في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، تجد الصين نفسها مضطرةً إلى مواجهة الولايات المتحدة بنشاط وصمت.
وعلى الرغم من التوترات والعقبات التي تشهدها المنطقة، قررت بكين الدخول إلى مناطق النفوذ الأمريكي التاريخية، وخاصةً في غرب آسيا، ولذلك، أصبحت سوريا مؤخراً في بؤرة الاهتمام الصيني، وكان تركيز زيارة الأسد إلى بكين اقتصادياً في معظمه، وقد وقّع رئيسا البلدين على ثلاث وثائق تعاون.
تضمنت الوثيقة الأولى التعاون الاقتصادي بين البلدين، والوثيقة الثانية مذكرة تفاهم في مجال تبادل الخبرات والتعاون من أجل التنمية الاقتصادية، والوثيقة الثالثة مذكرة تفاهم حول التعاون في إطار "مبادرة الحزام والطريق"، وهي الاتفاقيات التي سيكون لها إنجازات كبيرة في مجالات أخرى من التعاون الثنائي.
الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية لسوريا بالنسبة للصين
رغم أن الصين كانت تقف سياسياً إلى جانب حكومة بشار الأسد، إلا أنه وفقاً للتغيرات والتطورات التي طرأت على الساحة العالمية، فقد تم إعطاء الأولوية للمصالح الاقتصادية والجيوسياسية بالنسبة لبكين.
تعتبر سوريا رصيداً استراتيجياً للصين ليس فقط من حيث الموارد الطبيعية، بل أيضاً من حيث الثقل الجيوسياسي، ومن حيث الموقع الجغرافي والموقع الحضاري والدور الذي تلعبه في معادلات سياسة الشرق الأوسط.
يتمتع الموقع الجغرافي لسوريا بأهمية استراتيجية واقتصادية للدول التي تنوي الاستثمار في المنطقة، وتسعى الصين، باعتبارها أكبر مستثمر في العالم، إلى حضور فعال في الاقتصاد السوري.
وتحظى سوريا بأهمية خاصة من الناحية الجيوسياسية ومرور الطرق البرية والبحرية، ونقل خطوط الطاقة التي تربط الشرق بالغرب، أحد هذه الخطوط العالمية المهمة هو ممر "حزام واحد، طريق واحد" الذي أنشأته الصين، والذي يربط آسيا بأوروبا وأفريقيا من خلال شبكة من الطرق البرية والبحرية، وسوريا هي إحدى الدول الواقعة على هذا الطريق البري المؤدي إلى البحر الأبيض المتوسط، ومن ثم إلى أوروبا.
منذ الإعلان عن مبادرة الحزام والطريق الصينية، أصبحت إقامة الشراكات الاستراتيجية أحد أهم أبعاد الدبلوماسية الصينية، وقد زاد عدد الدول التي تتعاون معها الصين بشكل مطرد منذ عام 2016.
وحسب تقارير إعلامية صينية، ستعقد القمة الثالثة لمبادرة الحزام والطريق خلال الأيام المقبلة، والتي ستشارك فيها أكثر من 150 دولة و30 منظمة دولية، وأعلنت بكين أنها تلقت تأكيدات من 110 دول لحضور القمة المقبلة، بما في ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ولذلك، فإن الحضور المحتمل لمسؤولين من دمشق في اجتماع العمل هذا، يعدّ رسالةً مهمةً للغرب مفادها بأن سوريا لها مكانة مهمة في السياسات الاقتصادية لبكين.
وعلى النقيض من السياسة الخارجية الأمريكية، التي تقوم على استخدام الأدوات الصلبة والناعمة والاعتماد على وسائل مختلفة للضغط حتى على الحلفاء، فإن سياسة الصين الخارجية تقوم على تحديد المصالح المشتركة مع الدول الأخرى، وتستخدم بكين مبدأ الشراكة كأداة جيوسياسية لقوتها ونفوذها العالمي والإقليمي.
سوريا دولة صغيرة من حيث جغرافيتها ومواردها، لكنها كبيرة من حيث إرادتها وموقعها الجيوسياسي المتميز، وهو ما كان أحد أسباب الحرب عليها، وخاصةً أن العالم يشهد ما يمكن تسميته "عودة سوريا".
إن سوريا الجديدة تختلف كثيراً عما كانت عليه قبل عقد من الزمن عندما كانت تعاني من أزمة داخلية، وتمكنت من استعادة مقعدها في الجامعة العربية، ما يدل على أن هذا البلد يسعى إلى استعادة موقعه واقتداره السابق في المنطقة.
كما تنظر الصين، التي تتخذ خطوات لتطوير علاقاتها مع الدول العربية، إلى سوريا باعتبارها دولةً مؤثرةً في غرب آسيا، لقد فقدت سوريا خلال فترة الأزمة الكثير من بنيتها التحتية، وتحتاج إلى مساعدة دولية لاستعادة مكانتها، وعلى الرغم من أن بعض الدول العربية في المنطقة، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة، بدأت في اتخاذ خطوات لإعادة بناء البنية التحتية في سوريا، فإن الصين تخطط أيضًا لمواكبة هذا السوق المربح.
ولذلك، فإن وجود الصين في سوريا يعني البناء والمزيد من التعاون الاقتصادي والمنفعة المتبادلة، وهو ما يعني الانتقال إلى مرحلة ما بعد الحرب في سوريا، ما يؤدي إلى إحياء دور ومكانة هذا البلد في المنطقة والعالم.
ومن أجل تحقيق مشاريعها، فإن الصين بحاجة ماسة إلى تحقيق الاستقرار في منطقة غرب آسيا، والذي يقوم على انتقال دول هذه المنطقة من مرحلة الصراع المباشر وغير المباشر، إلى مرحلة التعاون الإقليمي المبني على تكامل المصالح الاقتصادية فيما بينها.
ولهذا الغرض، في الأشهر الأخيرة، ومن خلال التوسط بين إيران والسعودية ومحاولة التقارب العربي، ساعدت بكين إلى حد كبير في إعادة الاستقرار إلى غرب آسيا.
إن زيارة بشار الأسد للصين وتوقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، هي مقدمة لإنهاء العزلة الدولية التي يمليها الغرب على سوريا، ولذلك، يعتقد بعض الخبراء أن الوجود الصيني القوي في سوريا يهدف إلى صد الولايات المتحدة، وهزيمة السياسات الغربية في هذا البلد، ومن خلال تعزيز العلاقات الاقتصادية مع سوريا، يحاول الصينيون تحييد العقوبات الغربية المفروضة على هذا البلد، واستعادة الاستقرار في سوريا.
هناك مجالات عديدة للتعاون بين البلدين، والتي ستؤدي إلى نتائج مهمة إذا تم التغلب على العقبات البيروقراطية، وإيجاد قنوات للتواصل المباشر بين البلدين، وهذا التعاون لن يلقى ترحيباً من أعداء سوريا، وخاصةً الولايات المتحدة التي تنهب النفط السوري من الآبار الواقعة تحت احتلالها، وفي الوقت نفسه تعلن للعالم أن هدف القوات الأمريكية الموجودة هناك هو محاربة الإرهاب.
وتريد الصين تعزيز التعاون بين الدول القريبة منها وحلفائها، لأنها تدرك أنها على مشارف مرحلة جديدة من الحرب الباردة مع الولايات المتحدة، ولذلك تبحث عن المساعدة في المنطقة، وسوريا هي أيضاً جزء من لغز المواجهة بين القوتين العظميين في العالم.
جهود أمريكا للتعامل مع الصين
في الوقت الذي تبذل فيه الصين جهوداً لتحسين العلاقات مع سوريا، زادت الولايات المتحدة أيضاً من جهودها لعرقلة مسار منافسها الناشئ في المنطقة.
وفي هذا الصدد، في الأسابيع الأخيرة، تم وضع بناء ممر "الهند إلى أوروبا" على جدول الأعمال من قبل واشنطن وحلفائها، الذين يحاولون استبداله بطريق الحرير الصيني، وتعلم أمريكا جيداً أنه إذا تم تنفيذ هذا المشروع الضخم، فإن الصين ستأخذ نبض التجارة العالمية، وهذا يشكل تهديداً خطيراً لتراجع هيمنة واشنطن في العالم.
ورغم تحذيرات موسكو ودمشق لانسحاب القوات الأمريكية من شمال سوريا، إلا أن واشنطن لديها خطط جديدة لهذا البلد، ويبدو أنها لا تنوي إنهاء الاحتلال، وقد أفاد موقع "أدار برس" نقلاً عن مصادر رسمية ذات صلة بالأكراد السوريين مؤخراً، بأن الولايات المتحدة ستنقل سفارتها في دمشق إلى مناطق شمال سوريا.
بل يقال إنه سيتم تغيير اسم "السفارة الأمريكية في دمشق" إلى "السفارة الأمريكية في سوريا"، وحذف كلمة "دمشق" منه يظهر أن قادة البيت الأبيض غير مستعدين للاعتراف بالحكومة الشرعية لبشار الأسد.
ومن خلال وجودها طويل الأمد في شمال سوريا، تحاول واشنطن سرقة موارد البلاد من النفط والغاز، وإضافة إلى توفير جزء من احتياجات الطاقة للكيان الصهيوني والاتحاد الأوروبي، فإنها تحاول أيضًا كسب الدخل من هذا الطريق.
الأمريكيون لا يريدون أن يفقدوا هذا الكنز الثمين، لأنهم يعلمون أنهم إذا غادروا شمال سوريا، فلن يخسروا المنافسة أمام المنافسين الروس والإيرانيين فحسب، بل سيفتحون الطريق أمام وجود الشركات الصينية في قطاع الطاقة السوري.
قبل الأزمة في سوريا، كانت الصين تشارك بشكل فعال في استخراج الموارد النفطية السورية، وستستأنف أنشطتها في هذا المجال إذا غادر الاحتلال الأمريكي، وهو ما لا تريده واشنطن على الإطلاق.
ويعتبر نقل السفارة من دمشق إلى مناطق خارج سيطرة الحكومة المركزية، استمراراً لمشروع تفكيك هذا البلد الذي تنتهجه الولايات المتحدة والكيان الصهيوني منذ سنوات، لأن الجبهة العبرية الغربية لا تتحمل رؤية سوريا القوية المتحالفة مع مثلث روسيا والصين وإيران، وبالتالي تعتزم إبقاء نار الأزمة في هذا البلد مشتعلةً.
کما تحاول واشنطن تشجيع الدول الغربية الأخرى على نقل سفاراتها إلى المناطق المحتلة، وإبقاء سوريا في عزلة دولية بهذا الإجراء الذي يعدّ انتهاكاً لوحدة الأراضي السورية.
وتعتبر عودة حكومة بشار الأسد إلى الجامعة العربية وما تلاها من انفتاح اقتصادي بفضل الاستثمارات الصينية، بمثابة هزيمة كبيرة للغرب وحلفائه، وهم لا يريدون أن يكتمل مشروع الخروج من العزلة بمساعدة القوة الشرقية الناشئة.
علی الرغم من أن الأجواء غير مواتية للصين لإظهار قوتها في سوريا بسبب سياسات العقوبات الأمريكية ضد هذا البلد، إلا أن بكين أظهرت أنها تعرف كيف تلعب الأوراق مع منافستها الغربية، وربما يتم حل الأزمة في سوريا بمساعدة التنين الأصفر، وفي هذه الحالة ستسجل بكين انتصاراً آخر على واشنطن، وسيدرك العالم تراجع الهيمنة الأمريكية.