الوقت - لن يطل العام الدراسي المقبل في الجزائر كما المعتاد، فثمة تحولات جوهرية على صعيد البنية الرئيسة للتعليم ستحدث، وأهمها تحييد اللغة الفرنسية، وعدم التعامل بها في الجامعات والمدارس.
لقد فرض الاستعمار الفرنسي اللغة الفرنسية في الجزائر خلال فترة احتلاله للجزائر والتي استمرت 132، حارب فيها اللغة العربية، وبعد أن نالت الجزائر استقلالها صدرت قوانين عديدة لإعادة الصبغة العربية للحياة في الجزائر من خلال حركة التعريب في مناحي الحياة كافة.
نالت الجزائر استقلالها عام 1962، وصدر عام 1991 قانون يقضي بتعميم استعمال اللغة العربية، لكن تم تجميد القانون عام 1992، ثم أُعيد إحياء «مشروع التعريب» عام 1996، لكن محاولات تطبيقه كانت تتعثر دائماً لأسباب مختلفة.
ووفق آخر تقرير لمرصد اللغة الفرنسية التابع للمنظمة الدولية للفرانكوفونية، فإن عدد المتحدثين باللغة الفرنسية في العالم بلغ ٣٠٠ مليون شخص، بينهم ١٣ مليوناً و٨٠٠ ألف جزائري، أي ما نسبته ٣٣ في المئة من الجزائريين يتحدثون الفرنسية في حياتهم اليومية.
بوادر القطيعة
لم يكن مطلب إلغاء التعامل بالفرنسية مفاجئاً، فثمة أسباب رئيسة وراء هذا المطلب، ولعل السبب الأول والملح كان إعادة الجزائر إلى انتمائها الثقافي والاجتماعي والذي يبدأ باللغة التي يتكلمها المجتمع، والتعاملات اليومية الرسمية والعلاقات بين الأفراد وقطاعات المجتمع، فتعريب الجزائر بكل ما فيها مطلب عام له صلة مباشرة بالهوية والانتماء.
لكن ثمة أسباب أخرى لها دور رئيس في اتخاذ قرار الإلغاء ولا سيما على مستوى التوقيت، إذ إن التوتر السياسي قائم بين الجزائر وباريس، على خلفية الجدل المتكرر إزاء «ملفات الذاكرة»، المرتبطة بفترة الاحتلال الفرنسي.
وتحول التوتر إلى أزمة تصاعدت حدتها مع فرنسا، بعد تصريحات رئيسها إيمانويل ماكرون،التي وصفت ب”المسيئة”، إذ طعن في تاريخ الجزائر وأنكر في تصريحات للإعلام، «وجود أمة جزائرية» قبل الغزو الفرنسي للجزائر عام 1830، الأمر الذي دفع الجزائر لسحب سفيرها من باريس، ومنع تحليق الطيران العسكري الفرنسي في أجوائها.
ومن جانب آخر أطلق نواب من اليمين الفرنسي دعوات لإلغاء اتفاق يضبط الهجرة بين البلدين، يعود إلى 1968؛ بحجة أنه «لا يشجع على الحد من الهجرة إلى فرنسا». وهذه المساعي ذات صلة برفض الجزائر طلب فرنسا، استقبال الآلاف من مهاجريها غير النظاميين. وردت باريس على ذلك بتقليص حصة الجزائر من التأشيرات إلى النصف، منذ 2021.
ومن أسباب الخلاف بين الجزائر وفرنسا تمسُّك الجزائر باعتراف فرنسا رسمياً بجرائمها خلال فترة الاحتلال وتقديم الاعتذار عنها؛ وهو ما يرفضه الفرنسيون بحدّة. فالخلافات لا تهدأ أبداً بين البلدين، وقد أحدثتها بقايا فترة الاستعمار، والماضي الأسود الذي عاشته الجزائر إبان الاحتلال.
وكان مقرراً أن يزور الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون فرنسا في منتصف مايو (أيار) الماضي، ثم تأجّل الموعد إلى يونيو (حزيران)، ولم تحصل الزيارة لأسباب لم تعلن، لكنها تتعلق في ما يبدو من جهة ما بتلك الخلافات.
ويبرز من جهة أخرى سبب مرتبط بطبيعة اللغة ذاتها فقد رأى البعض استخدام الإنكليزية لأنهم يرونها لغة التطور والعصر، بحيث لا يعارضون فكرة ترقيتها إلى اللغة الأجنبية رقم واحد بعد العربية، ما يعني تحضير الأجيال القادمة لهذا التحوُّل والانتقال إليه فقد أطلق “منتدى المواطنة والبيئة الجزائري” حملة جمع توقيعات مليونية لمطالبة الحكومة بتغيير لغة التدريس الثانية من الفرنسية إلى الإنكليزية، إذ تهدف الحملة إلى “السعي لمواكبة العالم لغويا وفكريا وعلميا، ولننقذ أبناءنا من تضييع سنوات في تعلم لغة لا تفيد في شيء”.
العزوف عن الفرنسية
تشهد الجزائر جدلاً مستمراً بشأن مكانة اللغة الفرنسية في الأوساط الرسمية بالدرجة الأولى، إذ يحتج معارضون، وخصوصاً من المحافظين، على صدور خطابات رسمية بالفرنسية، وتداول وثائق في الإدارات الحكومية باستخدامها.
إن موقف الحكومات الجزائرية المتعاقبة من الفرنسية واضح، فهناك إرادة واضحة لتعريب كل جوانب الحياة الاجتماعية والإدارية، ففي عام 1991، أصدرت السلطات الجزائرية قانوناً يقضي بتعميم استخدام العربية في المعاملات كلها داخل القطاعات الحكومية، وكذلك في عام 2019 قررت الحكومة تغيير لغة المراسلات الرسمية في الجامعات من الفرنسية إلى الإنكليزية، بهدف إزاحة الفرنسية تدريجياً من التدريس في الجامعات والكليات، وفي عام 2021، جرَّبت هيئات حكومية بالجزائر تعريب كل مراسلاتها ووثائقها الداخلية، ومنعت كوادرها من التعامل بلغة أخرى غير العربية، وحددت1 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام ذاته موعداً لبدء تنفيذ القرار، وهو تاريخ يصادف ذكرى اندلاع الثورة ضد الاستعمار الفرنسي.
لكن في عام 2022 تصاعدت حدة المطالبات بإلغاء اللغة الفرنسية بدورها الوظيفي القائم في الجزائر، وبات هذا المطلب يأخذ توجهاً عاماً في جميع الأوساط.
في بداية الموسم الدراسي 2022، بدأت الحكومة في تدريس الإنكليزية في الأطوار التعليمية الأولى بدلاً من الفرنسية كما طالبت المنظمة الجزائرية لأساتذة التربية وزارة التربية بتخفيف البرامج التربوية في مرحلة الابتدائي، من خلال حذف بعض المواد على غرار اللغة الفرنسية والإبقاء عليها في الطورين المتوسط والثانوي.
وتوجّه الأمين العام لوزارة التعليم العالي الجزائرية، بمراسلة إلى مديري الجامعات يوم 1 يوليو (تموز) الحالي يطالبهم فيها بـ«تنظيم اجتماعات وتشكيل فرق بيداغوجية حسب المقياس أو المادة، وذلك قبل الخروج للعطلة الصيفية للتحضير لاعتماد اللغة الإنكليزية لغةَ تدريسٍ بدءاً من السنة الجامعية المقبلة 2023-2024».
وطالبت حركات وجمعيات جزائرية بتفعيل قانون تعميم استخدام العربية، ومنع تداول الفرنسية في الوثائق والخطابات والاجتماعات الرسمية، وقطع الصلة بلغة فرنسا وثقافتها والتخلي عن لغة العدو وثقافته، وكل ما من شأنه المساس بالسيادة والهوية والشخصية الجزائرية.
فيتوالى في الجزائر صدور بيانات من وزارات عدة، تمنع موظفيها من التحدث بالفرنسية كلغة في الحياة اليومية مع المواطنين، وفي التعاملات والمراسلات الرسمية، ومنها وزارة الدفاع إذ كانت السباقة لإنهاء التعامل بالفرنسية في مختلف إداراتها العسكرية وشبه العسكرية، وذلك منذ سنوات طويلة، لكن هذه العملية تسارعت خلال السنوات الأخيرة، باستبدال الفرنسية بالإنكليزية في كل لافتات المؤسسات التابعة لها، ووزارة الشباب والرياضة الجزائرية السباقة في إصدار التعليمات من خلال مراسلة رسمية إلى كل الهيئات التابعة لها، بمنع استخدام اللغة الفرنسية، كما أصدرت وزارة العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي، تعليمات مماثلة، إلى كل الهيئات التابعة لها.
كما سرعت وزارة العدل خلال السنوات الماضية، استبدال الفرنسية في معاملاتها الإدارية بالعربية، كما أن القضاة يرفضون محاكمة المتهمين الناطقين بالفرنسية دون حضور مترجمين.
وكانت بعض المؤسسات الصحية، وبعض الهيئات الإدارية وباجتهادات من مسؤوليها، قد منعت استعمال الفرنسية من خلال التعاملات اليومية مع المواطنين.
قرار الإلغاء
أصدر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قرار اعتماد اللغة الإنكليزية في المناهج التعليمية بدءاً من الطور الابتدائي.
وقال وزير التعليم العالي، طيب بوزيد: إن القرار جاء استجابة لمطالب الطلاب الذين يرغبون في أن تعتمد شهاداتهم بسهولة أكبر في الخارج.
ووزع القرار على الجامعات في 21يوليو/ تموز، وجاء فيه "كجزء من سياسة تشجيع وتعزيز استخدام اللغة الإنكليزية، ولتحقيق الرؤية الواضحة لأنشطتنا التعليمية والعلمية في قطاع التعليم العالي، أحثكم على استخدام اللغتين العربية والإنكليزية في المراسلات والوثائق الإدارية والرسمية ".
جاء القرار موافقاً لرأي عام يسود في الجزائر بأن اللغة الإنكليزية اليوم، هي لغة العالم ولغة التواصل والبحوث العلمية، ومن جهة أخرى، اللغة الفرنسية كذلك لم يعد لها ذلك الصّيت الذي كانت تتمتع به في السابق، بغض النظر عن الخلفية الاستعمارية، ولم يعد لها تأثير في الاتحاد الأوروبي، والدول العربية اليوم أغلبيتها تتعامل باللغة الإنكليزية عكس الجزائر التي ما زالت تدرج اللغة الفرنسية كلغة أجنبية أولى".
وأشار مجلس أساتذة التعليم العالي إلى أن الجزائر أمام فرصة مواتية قد لا تتكرر للتخلص من هيمنة اللغة الفرنسية لصالح الإنكليزية، ولا سيما بوجود تجانس بين الإرادة الشعبية والسياسية لتطبيق هذا المشروع، مشيراً إلى أن الإنكليزية لغة العلوم والتكنولوجيا والبحث العلمي ولغة التواصل في كل دول العالم.
وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن الجزائر تتجه رسمياً لإنهاء هيمنة اللغة الفرنسية يرفض آخرون منح الخطوة أكثر مما تستحق، على اعتبار أن الرئيس تبون تعهد خلال حملته الانتخابية بالاستجابة لمطالب الحراك الشعبي، وكان إسقاط الفرنسية لصالح الإنكليزية أحدها، حيث طالب الشارع بإنهاء النفوذ الثقافي الفرنسي في البلاد، عبر طرد "اللغة الفرنسية" و"مقاطعتها في الإدارات والوثائق الرسمية وفي المناهج التعليمية"، أي إنها محاولة لاحتواء ما تبقى من مطالب حراك "22 فبراير".
ومن جهة أخرى يرى مجلس أساتذة التعليم العالي أن القرار ستعترضه عراقيل، حيث سيواجه حملة شرسة من لوبي فرنسي قوي جداً موجود في الداخل، والذي سيتحرك لإجهاض هذا التوجه. فهل ستتمكن الجزائر من إزاحة بقايا الكابوس الاستعماري، وإحلال العربية لتغطي مشهد الحياة؟