الوقت- العقل البشري هو من يصنع الثروة الحقيقية حينما يتمكن من تطوير منتجات عصر العلم أو تحقيق قيمة مضافة للثروات الطبيعية وتحويلها لمنتج تستفيد منه الصناعة، ويخلق طلبًا عليه من مختلف الدول..
عالمنا العربي وفي القلب منه مصر يتملك ثروة ضخمة من العقول المبدعة، لكنها تخرج منه مغردة صوب الغرب بحثًا عن الجامعات والمراكز البحثية التي تقدم المساندة البحثية والإمكانيات المادية، لتخرج أبحاثهم إلى النور ويحصدون نتاج تلك البحوث.
تُعرف «هجرة العقول» بأنها انتقال الأفراد الذين يملكون مستويات تأهيل عالية، أي خريجى الجامعات والكليات وما فوق ذلك، من بلدهم إلى بلد آخر، بهدف الحصول على الإقامة الدائمة والعمل.
وتصف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) «هجرة العقول» بأنها تمثل نوعًا شاذًّا من التبادل العلمى بين الدول، بحيث يتميز بالتدفق في اتجاه واحد أو ما يُسمى «النقل العكسى للتقنية».
هجرة العقول المصرية إلى الولايات المتحدة وأوروبا حالة فرضتها الظروف الصعبة، ومنها الافتقار إلى حياة علمية ذات ظروف سليمة وحوافز مشجعة.
وتذكيرا بالحادث الأليم الذي تعرض له مركب من المهاجرين نحو أوروبا في عرض البحر المتوسط أعلنت وزيرة الهجرة المصرية سها جندي عن خالص تعازيها لأسر الضحايا الذين لقوا حتفهم في غرق القارب يوم الأربعاء الماضي، والذي أبحر من السواحل الليبية، وكان به المئات من جنسيات مختلفة، ومن بينهم مصريون، مشيدة بجهود السفير عمر عامر، سفير مصر لدى أثينا، في متابعة الموقف.
وأضافت إنه يتم التنسيق مع الجهات المعنية، للوقوف على أسماء الناجين وموقفهم، وكذلك الذين لقوا مصرعهم خلال هذه الكارثة، موضحةً أن إجمالي عدد من كانوا على المركب يتراوح ما بين 400 -750 من جنسيات مختلفة، وإجمالي عدد المصريين الناجين 43 منهم (5 قُصر، 38رجال)، وأنهم ما بين 20 -40 سنة من البالغين المصريين.
وأضافت إن هناك 8 أشخاص يتم التحقيق معهم ووجهت لهم تهمة تنظيم هجرة غير شرعية والتسبب في قتل ضحايا والانتماء لمنظمة جريمة منظمة وهم رهن الاعتقال.
وتابعت وزيرة الهجرة إن إجمالي من تم إنقاذهم 104 من الجنسيات الأخرى التي تم انقاذها: 12 باكستانيًا، 47 سوريًا، 2 من دولة فلسطين.
وقالت جندي إن عدد المفقودين من المصريين غير محدد، لأن الحادث كان في مياه عميقة جدا، وتتم متابعة الموقف أولا بأول.
وأهابت السفيرة سها جندي بالشباب المصري ألا يلقوا بأنفسهم في رحلات الموت، وأن يحرصوا على السير في الطرق القانونية، والالتحاق ببرامج التدريب والتأهيل من أجل التوظيف التي تنظمها الوزارة لإكساب الشباب المهارات والخبرات، التي تؤهلهم للعمل في المشروعات القومية أو فرص عمل آمنة بالخارج.
معاناة للوطن الأم وربما نهاية حياة للمهاجر
عانت مصر على مدار سنوات من هجرة العقول واستقطاب علمائنا وباحثينا، حيث تعمل الدول الغربية على استقطاب العقول ذات الكفاءة العالية والتخصصات النادرة. والحال أن بلدهم الأصلى أحوج إليهم وأجدر بالاستفادة من خبراتهم الفنية وجهودهم العلمية المميزة.. ذلك الأمر الذي سلبنا جزءا كبيرا من الرصيد الفكرى وقدراتنا البشرية.. ورغم محاولات تنظيم هجرة العقول المصرية، إلا أن جاذبية الغرب تسيطر على ما يحدث في هذا المجال.
وحسب «الجهاز المركزى للإحصاء»، هناك 63% من العقول المصرية المهاجرة تخدم في الدول الغربية، ما انعكس إيجابًا لصالح هذه الدول واقتصاداتها، وقد أسهم المهاجرون بها علميًا وفكريًا ووظيفيًا وثقافيًا واجتماعيًا، وفتحت اكتشافاتهم ودراساتهم واختراعاتهم وإبداعهم وابتكاراتهم آفاقًا جديدة، ما أغنى الحياة العلمية هناك وجعلها تحقق الصدارة. وكان مفترضًا أن نستفيد من هذه العقول بتوفير البيئة السليمة لها لتساعدها على الإنتاج والإبداع، ولا تدفعها للهجرة.
وطالب الجهاز في توصية له بضرورة وضع برامج وسياسات تجذب تلك الكفاءات من خلال مراجعة مستويات الأجور التي يحصلون عليها أو توفير مناخ علمى مناسب لهم، مع التركيز على المهارات والتخصصات الضرورية التي يحتاجها المجتمع المصرى، إلى جانب فتح أسواق للعمل في الدول الأجنبية والاستفادة من المواهب لدى هؤلاء المهاجرين.
وأفاد «الإحصاء» بأن من أسباب هجرة العقول المصرية تحسين مستوى المعيشة، وذكر أن إجمالى تحويلات المصريين في الخارج بلغ 27 مليار دولار طبقًا لآخر إحصاء صادر من البنك المركزى. وأشار إلى أن عدد العقول المهاجرة بلغ 9.5 ملايين مواطن، يتركز أغلبهم في الدول العربية بنسبة 63%، موضحًا أن اللافت للنظر أن نسبة الكفاءات العالية المهاجرة من النساء 3%، مؤكدًا أن إجمالى تحويلاتهم في 2019 بلغ 27 مليار دولار.
نزيف عربي واستنزاف غربي
تحكم هذه الظاهرة متطلبات السوق العالمي وقواعد العرض والطلب فيه، فالدول المستفيدة تضع سياسات مغرية لانتقاء الكفاءات وجلبها. الولايات المتحدة مثلا وكندا والمملكة المتحدة وأستراليا وألمانيا وفرنسا جميعها تستقطب الأطباء والمهندسين والباحثين الجامعيين وغيرهم من الكفاءات. ولكن إلى جانب هذه السياسات الجاذبة والمدروسة من الدول المستقطبة والشركات الناشطة في هذه السوق العالمية، يعود تضاعف هجرة الأدمغة والكفاءات العربية إلى أسبابٍ أخرى عديدةٍ ومتشابكة، أين توجد كثير من عوامل الطرد. وتمثّل الأسباب الاقتصادية أهمّ الأسباب، فلا يخفى على أحد أن الدخل المادّي ومحفزات الارتقاء المهني تبقى عاملا فاعلا في هجرة أي خبرة عربية. لكن العوامل السياسية أيضا وازنة، فضيق هامش الحريات الشخصية والسياسية والتضييق على الناشطين والمثقفين والمبدعين والوضع الأمني الذي يتسم بعدم الاستقرار أو الصراعات والحروب في بعض الدول كلها عوامل محددّة. وكذلك العامل الاجتماعي الذي يشجّع الكثيرين، لما هو متاح للمهاجر وعائلته من امتيازات الصحة وتعليم الأبناء والإقامة الدائمة والحصول على الجنسية في أحيانٍ كثيرة. إضافة إلى هذا كله، يجب ألا نغفل العوامل الشخصية والذاتية كحسن المعاملة وجودة الحياة والعيش الكريم وفرص تطوير الذات التي تتيحها الدول المستقطبة وبيئتها. لا يصمد أمام كل هذه المغريات إلا قلة قليلة من الخبرات العربية التي تعاني إجمالا من وضع سيئ يمتاز بثقافة المحاباة والزبائنية والحرمان من عمل في التخصّص والبيروقراطية والتعقيدات الإدارية وتهميش للبحث العلمي وسياسات الابتعاث الفاشلة وضعف القطاع الخاص وشبه غياب لروح المبادرة والإبداع.
طريق المهاجرين المصريين والعرب للوصول إلى أوروبا
أغلب الطرق للوصول إلى القارة العجوز تمر عبر البحر المتوسط الذي أصبح مقبرة للمهاجرين واللاجئين الذين يبحثون عن فرصة للحياة، هربًا من البؤس وطلبًا للأمن بعيدًا عن بلادهم التي ضاقت بهم، ولم تفلح كل حملات التحذير من المغامرة والسفر عبر رحلات الموت في سفن غير آمنة وقوارب متهالكة، وأصبحت فكرة الهروب من الأوطان إلى أوروبا هي الأمل حتى لو كان نهايتها القتل والغرق بعيدًا عن الأهل والأحباب.
كشفت مظاهرات اليونانيين احتجاجًا على إغراق سفينة المهاجرين ومصرع 650 مهاجرا بينهم 100 طفل الجانب المظلم في ملف الهجرة عبر البحر المتوسط، فقد تكررت الوقائع التي تدين حرس السواحل اليوناني، وما يقوم به من ممارسات ضد السفن والقوارب التي تحمل المهاجرين إلى أوروبا وتعمد إغراقها والتسبب في موت ركابها.
حسب ما هو منشور في الإعلام اليوناني فإن من بين ركاب السفينة الغارقة مصريين وسوريين وباكستانيين، ولأن عملية الهجرة تتم في سرية تامة فإن المعلومات الكاملة غير متاحة عن الأعداد والجنسيات، ولأن السفينة انطلقت من طبرق متجهة إلى إيطاليا فخط سيرها كان لابد أن يمر بجوار سواحل اليونان التي تتعامل بعدوانية لا نرى مثلها في أي دولة في العالم.
ربما ما يجري في البحر المتوسط يجري عمداً وإن كان كذلك فهو جريمة ضد الإنسانية، وعار يلاحق كل من شارك بالقتل أو بالصمت، فمن الواضح أن العديد من السفن التي تقل المهاجرين يتم إغراقها بعيدا عن الإعلام، ولا أحد يشعر بها؛ فالذين يقتلون المهاجرين واللاجئين يتكتمون على جرائمهم، وأيضا الحكومات التي تتقيد باتفاقات مع فرنسا والاتحاد الأوروبي تلتزم الصمت، ولا تريد أن تفتح على نفسها أبواب المساءلة.
الذين يقومون بإغراق السفن وقتل الأبرياء مصاصو دماء، لا عذر لهم، وهم يرتكبون جريمة بشعة تؤكد أن البشرية ما زالت تعاني من عقليات مريضة تتغذى عل سفك الدم الحرام، وكأن البشرية رغم ما وصلت إليه من تحضر ما زالت تعيش في عصور الظلام.