الوقت - ادعى جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، في خطاب ألقاه قبل ستة أشهر وسط احتجاجات ضخمة مناهضة للحرب في جميع أنحاء أوروبا لصرف الرأي العام: "أوروبا مثل الحديقة، وبقية العالم مثل الغابة، والغابات المتوحشة تغزو الحدائق الجميلة"، لكن في هذه الأيام تعرضت هذه الحديقة المزعومة للهجوم ليس من الخارج بل من الداخل، وبات الناس ورجال الدولة يهاجمون بعضهم البعض.
زعم قادة أوروبا أنهم سيستمرون في دعم أوكرانيا طالما استمرت الحرب في هذا البلد، لكن هذا الدعم كلفهم الکثير ولم تنته الاحتجاجات التي بدأت قبل عام.
فرنسا في هذه الأيام أكثر اضطراباً من الدول الأوروبية الأخرى بسبب جشع قادتها. واستمرارًا للاحتجاجات الفرنسية ضد السياسات الاقتصادية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث نزل مئات الآلاف من الأشخاص إلى الشوارع، الثلاثاء الماضي، في مختلف مدن البلاد، بما في ذلك باريس وليون.
في باريس، أغلقت الشرطة برج إيفل وشددت الإجراءات الأمنية في العاصمة، بحجة أن المتظاهرين كانوا يحاولون توتير الأجواء. وحسب تقارير إعلامية، أغلقت الشرطة في مدينة ليون بعض شوارع المدينة بحواجز حديدية، لكن المتظاهرين عبروا عن معارضتهم الشديدة لسياسات الحكومة، من خلال التواجد في الشوارع بغض النظر عن هذه الإجراءات الأمنية.
كما تشير التقارير إلى وقوع اشتباكات دامية بين الشرطة والمتظاهرين في ليون وباريس، وقام المتظاهرون بتحطيم نوافذ المتاجر وبعض المؤسسات المالية والبنوك ردًا على عنف الشرطة. کذلك، تجمع المتظاهرون في مدينة مرسيليا واحتلوا محطة قطار سان شارل.
وفي هذا الصدد، قال جان لوك ميلونشون، زعيم حزب "فرنسا الأبية"، لماكرون يوم الثلاثاء الماضي، إننا سنواصل الاحتجاج. كما أكد حزب الوطن في هذا البلد من خلال نشر بيان بأنه سيواصل المظاهرات، ووصف قرار الحكومة رفع سن التقاعد إلى 64 بأنه غير شرعي.
يقال إن أكثر من مليوني شخص شاركوا في الإضرابات والاحتجاجات المناهضة للحكومة يوم الثلاثاء المنصرم. كانت هذه الاحتجاجات، التي بدأت قبل أسبوعين ردًا على مشروع قانون إصلاح نظام المعاشات التقاعدية لحكومة ماكرون، سلميةً في البداية، لكن بعد إقرار القانون واشتداد الاحتجاجات، أصبحت عنيفةً.
ووقعت خلال الاحتجاجات والمظاهرات في الأيام الماضية اشتباكات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين في مدن مختلفة، وحسب تقرير وزارة الداخلية الفرنسية، فقد تم اعتقال مئات الأشخاص في الاحتجاجات وإصابة المئات من الأشخاص وقوات الأمن.
ماكرون لن يتراجع
على الرغم من زيادة نطاق الاحتجاجات على مستوى البلاد في فرنسا، فإن حكومة ماكرون ليست على استعداد للتراجع عن مشروع القانون المثير للجدل، وقالت إنها لن تتراجع عن تنفيذ هذا القانون وتحاول تطبيق القانون بحلول نهاية عام 2023.
أثار إصرار الحكومة على تطبيق قانون إصلاح نظام التقاعد غضب المتظاهرين، وعدد المحتجين في الشوارع يتزايد كل يوم، والمعارضون الآن لا يکتفون بإلغاء هذا القانون، بل رفعوا سقف شعاراتهم بالمطالبة باستقالة الحكومة وماكرون.
اعتاد الفرنسيون على تنظيم احتجاجات على شكل "السترات الصفراء" أسبوعيًا، أما الآن فقد أصبحت الاحتجاجات يوميةً، ما يظهر أن المعارضين يرون أن الشارع هو السبيل الوحيد لتحقيق مطالبهم.
مع اشتداد الاحتجاجات فقدت الحكومة زمام الأمور، وأعلنت وزارة الداخلية الفرنسية في بيان حذرت فيه المتظاهرين من الاحتجاجات العنيفة، أنها نشرت 13 ألفًا من قوات الشرطة في مختلف مدن البلاد للتعامل مع المحتجين.
وادعى وزير الداخلية الفرنسي أن هذا البلد سيبقى حصنًا ضد العنف والجماعات المتطرفة العنيفة، وستقوم الحكومة بحل الجماعات المتطرفة ولن تسمح أبدًا بالعنف.
من خلال الادعاء بأن الاحتجاجات من صنع الجماعات المتطرفة، تحاول حكومة ماكرون زيادة نطاق العنف ضد المحتجين وقمع المعارضة بمزيد من القوة، بحجة أنهم يجعلون البلاد غير آمنة.
طاقة فرنسا تصاب بالشلل
إن تواجد المتظاهرين في الشوارع ليس الشاغل الوحيد للحكومة، بل الإضرابات الواسعة النطاق زادت الطين بلةً وشلت القطاعات الاقتصادية.
نتيجةً للإضرابات العمالية الكبرى، أصبح الوقود نادرًا في جميع أنحاء فرنسا، مع إغلاق ستة على الأقل من مصافي التكرير السبع في البلاد أو تشغيلها بقدرة منخفضة، وتم إغلاق محطات الغاز الطبيعي المسال. وفي وقت سابق، أغلقت أكبر مصفاة نفط في فرنسا، مملوكة لشركة توتال، بالكامل بسبب إضراب عمالها.
كما أعلنت هيئة الطيران المدني الفرنسية تعطل الحركة الجوية، في مطارات باريس ومرسيليا وبوردو وتولوز بسبب الإضرابات. هذا فيما دعت النقابات العمالية إلى استمرار الاحتجاجات والإضرابات في جميع أنحاء فرنسا، ومن المرجح أن تواجه حكومة ماكرون تحديات خطيرة في الأيام المقبلة.
من ألمانيا إلى بريطانيا في دوامة الاحتجاجات
لا تقتصر الاحتجاجات والإضرابات على فرنسا، بل الدول الأوروبية الأخرى ليست في وضع جيد أيضًا.
في ألمانيا، باعتبارها أكبر اقتصاد في أوروبا، عقد عمال وموظفو قطاع النقل والخدمات ذات الصلة إضرابًا عامًا في مدن مختلفة يوم الاثنين الماضي وطالبوا بمزيد من الأجور والمزايا، حتى لا يتسبب التضخم الحالي في أوروبا في تدهور واسع النطاق في مستويات معيشة الشرائح الضعيفة.
کذلك، أغلقت المطارات ومحطات الحافلات والقطارات في أنحاء ألمانيا يوم الاثنين الماضي بسبب الإضرابات. وقد دفعت ضغوط التكلفة المستمرة البنوك المركزية إلى سلسلة من الزيادات في أسعار الفائدة، وقال صناع السياسة إنه من السابق لأوانه الحديث عن الأسعار والأجور.
هذا فيما عبر "العمال الرواد" بشدة عن قلقهم من خلال تحذير رؤساء النقابات، من أن زيادة الأجور لملايين العمال هي مسألة "حياة أو موت".
ولهذا السبب، تتفاوض "نقابة فيردي" مع الحكومة لزيادة الأجور، وهي تمثل ما يقرب من 2.5 مليون موظف في القطاع العام، بما في ذلك وسائل النقل العام والمطارات و"اتحاد السكك الحديدية والنقل"، وأيضًا نيابةً عن حوالي 230 ألف موظف في شركات السكك الحديدية والحافلات.
شهدت ألمانيا وضعًا سلميًا نسبيًا في العقد الماضي، ولكن مع بداية الحرب الأوكرانية واجهت هذه الدولة مشاكل اقتصادية أكثر من غيرها. حيث أعرب مئات الآلاف من الأشخاص في ألمانيا مرارًا وتكرارًا عن معارضتهم لدعم قادة برلين لأوكرانيا من خلال تنظيم احتجاجات في الشوارع، وطالبوا بإنهاء المساعدات العسكرية والمالية.
بعد قطع صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، عانت ألمانيا من أزمة اقتصادية حادة وأغلق عدد من المصانع في البلاد، ولا تزال عواقبه تطارد الألمان.
کما تستمر الاحتجاجات ضد السياسات الاقتصادية للحكومة في النمسا، المجاورة لألمانيا. وفي هذا الصدد، طالب آلاف الأشخاص في النمسا، الثلاثاء الماضي، من خلال تنظيم مظاهرات حاشدة في هذا البلد، بإلغاء اجتماع شركات النفط والغاز في فيينا.
وأعلنت السلطات المحلية إصابة ضابطي شرطة إثر مظاهرة لمحتجين، احتجاجاً على اجتماع لشركات النفط والغاز في فيينا عاصمة النمسا. ومع تحول الاحتجاجات إلى عنف، استخدمت الشرطة رذاذ الفلفل لتفريق المتظاهرين، وأثناء الاشتباكات بين الجانبين، أعلنت الشرطة اعتقال 143 محتجاً.
واعترض المتظاهرون على عقد المؤتمر الأوروبي للغاز الذي استمر 3 أيام، وحاولوا قطع الطريق إلى الفندق من خلال عبور الحواجز التي أنشأتها الشرطة. وانتقد نشطاء بيئيون المشاركين في المؤتمر متابعة المزيد من مشاريع الغاز الطبيعي وسط طلب قوي وارتفاع الأسعار، بسبب حرب أوكرانيا والعقوبات علی روسيا.
بريطانيا أيضًا، التي واجهت في الأشهر الأخيرة احتجاجات وإضرابات لمئات الآلاف من الأشخاص في قطاعي الصحة والسكك الحديدية، في الأيام الأخيرة أدت سياسات حكومة ريشي سوناك، رئيس وزراء هذا البلد، إلى جلب الناس إلى الشوارع مرةً أخرى.
في الأسبوع الماضي، احتج الآلاف من البريطانيين وأعضاء جماعات حقوق الإنسان والجماعات المناهضة للفاشية والعنصرية، على برنامج الحكومة المناهض للهجرة، وبدؤوا مظاهرات في جميع أنحاء البلاد وهتفوا بدعم طالبي اللجوء.
ونُظمت احتجاجات مماثلة في مدن أخرى في بريطانيا، وكذلك في اسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية، وأظهر المشاركون اشمئزازهم من السياسات العنصرية والمعادية للمهاجرين لحكومة سوناك، باللافتات التي حملوها والشعارات التي رددوها.
هذا بينما قدمت الحكومة البريطانية، بصفتها إحدی الجهات الرئيسية التي تزعم الدفاع عن حقوق الإنسان، مؤخرًا خطةً إلى البرلمان ستصبح على أساسها قواعد هجرة طالبي اللجوء إلى هذا البلد أكثر صعوبةً.
الزعماء الأوروبيون، الذين يواجهون موجة احتجاجات شعبية ضخمة منذ العام الماضي، يتجاهلون مطالب مواطنيهم ويغمضون أعينهم عن الحقائق ويخفون ما يجري في بلدانهم، وبدلاً من ذلك ركزوا على الاضطرابات المؤقتة في إيران، لكن الأدلة تشير إلى أن الوضع الحالي في فرنسا وألمانيا وبريطانيا أوسع بكثير مما حدث في إيران حيث هدأت بعد فترة وجيزة، لكن أوروبا لا تزال في دوامة عنف ولا يوجد علاج لها.
بشكل عام، يمكن القول إن شعوب أوروبا لا تعتبر استمرار الحرب في أوكرانيا لصالحهم، ويعتقدون أنه لماذا يجب أن يدفعوا ثمن حرب الآخرين في منازلهم، ويطالبون بوقف المساعدات العسكرية والمالية لكييف.
بالنظر إلى أنه بسبب السياسات الحربية لأمريكا والدول الأوروبية، لا يوجد منظور واضح للحرب في أوكرانيا، وزعماء فرنسا وألمانيا ليسوا مستعدين للتراجع عن سياسات التقشف الاقتصادي التي ينتهجونها، لذلك مع اشتداد الأزمة الاقتصادية، ستبدأ جولة جديدة من الاحتجاجات في الأشهر المقبلة، وستتحول الحديقة الخضراء لأوروبا إلى غابة متوحشة صنعها قادة الاتحاد الأوروبي للناس بأيديهم.