الوقت- في الثالث من شباط/ فبراير ٢٠٢٠م، وصل رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان عبد الفتاح البرهان إلى عنتيبي في زيارة خاطفة. وفي المساء، كانت وسائل الإعلام تكشف خبايا الحدث، الذي شكل صدمة للرأي العام العربي والإسلامي عموما وللسودانيين خاصة، حيث التقى الزعيم السوداني مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، كانت تلك إحدى ثمار محاولات للدبلوماسية الإسرائيلية. إن الواقع الدولي والإقليمي يشهد حالة "هشاشة" وارتباط العلاقات أكثر بالمصالح، وتراجعت المواقف ذات الطابع الأيديولوجي المبدئي والنفس القومي.
كما أن النمو الاقتصادي المتسارع في القارة الإفريقية، شكل مدخلا جديدا للعودة للقارة والتي تختزن أغلى المعادن وخاصة في منطقة البحيرات. ومع حالة الشتات العربي، كان المسعى الإسرائيلي أكثر جرأة هذه المرة.
التاريخ يسجل أن إسرائيل رعت ودعمت الحرب في جنوب السودان حتى الانفصال، وكانت إسرائيل وراء قضية دارفور حيث نشطت أكثر من 38 منظمة إسرائيلية. وما زال عبدالواحد محمد نور (أكثر المتعنتين) وثيق الصلة بإسرائيل، ولكن لإسرائيل أجندة أخرى هذه المرة، وخاصة مع انكفاء الإدارة الأمريكية على مصالحها الوطنية، وزيادة القلق والتوتر الأمني في منطقة الشرق الأدنى، وخشية اندلاع حرب بين دول الخليج الفارسي وإيران، ما أدى إلى تشكل واقع جديد، وإعادة ترتيب المنطقة وتعريف "العدو"، ما أضعف القوة العربية ذات الزخم ضد إسرائيل في المنطقة. وللقارة الإفريقية أربع مزايا مهمة، فهي أولا: مخزون كبير للثروات الطبيعية من المعادن النفيسة جدا والذهب، ومصدر مهم للمياه، وسوق تجاري. وثانيا: للقارة تأثير ووزن في المحافل الدولية والأممية وإسرائيل، مثقلة بالقرارات الأممية ولجان حقوق الإنسان والمنظمات.
وثالثا: منطقة قليلة الأثقال في الأجندة الدولية، وما عدا غرب وشمال إفريقيا حيث التأثير الفرنسي، وإثيوبيا ومصر حيث الاهتمام الأمريكي، فإن المجال متاح لدخول لاعبين جدد. وقد وجدت الصين مساحة في الوسط الإفريقي من خلال تبادل المنافع، التنمية والتجارة والمواد الخام. ورابعا: فإن التحيزات والمشاعر الداخلية تجاه إسرائيل محايدة، إن لم نقل غير مهتمة، فإسرائيل لدى المخيلة الشعبية دولة لها مثالبها وإيجابياتها، والقضية الفلسطينية مثل أي قضية أخرى، لا تأخذ مبدأ عقائديا أو قوميا، ونخص هنا إفريقيا جنوب الصحراء. ومع ضعف الوجود الفلسطيني، فإن القضية مجرد أجندة مع أخرى كثيرة، لكل ذلك بدت إسرائيل أكثر نشاطا في القارة.
روايات كثيرة تدور عن علاقات بين أطراف سودانية وإسرائيلية، منها لقاء وفد من حزب الأمة القومي التقى في ١٧ حزيران/ يونيو ١٩٥٤م بوفد إسرائيلي على أشهر الروايات، وهمزة الوصل الصحفي الراحل محمد أحمد عمر، وترتيبات نقل الفلاشا من إثيوبيا عبر السودان عام ١٩٨٤م. وحاولت إسرائيل عن طريق طرف ثالث تحقيق تواصل مع القيادة السودانية في عهد الرئيس البشير، فقد زار السودان في تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠١٨م وزير النقل الكيني طالبا السماح بعبور الطيران إلى إسرائيل، وهو الأمر الذي قوبل بالرفض. وسبق لإسرائيل ضرب مصنع للأسلحة في الخرطوم، وهاجمت طائرات يعتقد أنها إسرائيلية أهدافا في شرق السودان.
نقطتان أكثر أهمية في علاقات إسرائيل مع السودان، وأولهما: الحد من دعم القضية الفلسطينية، فقد كشف رئيس المكتب السياسي في حماس إسماعيل هنيه جانبا من ذلك، ووفرت الحكومة مساحة للفصائل الفلسطينية، وظل العنفوان الشعبي حاضرا. وثانيا: كسر واحدة من أكثر حلقات الممانعة رسوخا، أي التطبيع مع "عاصمة اللاءات الثلاث"، وحاضنة أكبر مصالحة عربية بين العاهل السعودي الملك خالد وبين الرئيس المصري جمال عبد الناصر تقبلهما الله عنده، وذلك عام ١٩٦٧م بالخرطوم. وفي ظل مرحلة انتقال قاسية، وبدعم وحرص أمريكي، تسعى إسرائيل لإحداث اختراق وبناء علاقات مع دولة ذات أهمية بالغة، من حيث عمقها وتأثيرها.
وعلى صعيد متصل، قالت وزارة الخارجية الإسرائيلية يوم الخميس الماضي إن الجانبين الإسرائيلي والسوداني وضعا اللمسات النهائية على اتفاق لتطبيع العلاقات، ومن المتوقع إقامة مراسم التوقيع عقب نقل السلطة من الجيش إلى حكومة مدنية في الخرطوم. وجاء هذا الإعلان بعد أن قالت وزارة الخارجية السودانية إنه تم الاتفاق خلال زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين على "المضي قدما في سبيل تطبيع علاقات البلدين".
بعد عقود من عدم الاعتراف، تعهد السودان باتخاذ خطوات تجاه العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل في إطار اتفاق أبرم عام 2020 بوساطة إدارة الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب إلى جانب اتفاقات تطبيع بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب المعروفة باسم "اتفاقيات إبراهيم". وزيارة كوهين للخرطوم هي الأولى لمسؤول إسرائيلي يعترف بها السودان رسميا على الرغم من زيارات متبادلة من مسؤولين من البلدين في السنوات القليلة الماضية. وقالت وزارة الخارجية الإسرائيلية في بيان "خلال الزيارة التي تمت بموافقة الولايات المتحدة، وضع الطرفان اللمسات الأخيرة على نص الاتفاق".
وأضافت "يُتوقع اتمام مراسم التوقيع بعد نقل السلطة في السودان إلى حكومة مدنية سيتم تشكيلها في إطار عملية الانتقال الجارية في البلاد". وقال ليئور هايات، المتحدث باسم وزارة الخارجية الذي شارك في الوفد لرويترز "نحن بالتأكيد نتطلع إلى توقيع الاتفاق ومن ثم وجود ممثلين دبلوماسيين في كل من إسرائيل والسودان، ولم نصل بعد إلى مرحلة اتخاذ قرار بشأن السفارة هنا وهناك". وقال مكتب رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان إن كوهين بحث مع البرهان سبل تعزيز آفاق التعاون بين البلدين في الشؤون الأمنية والعسكرية وكذلك في مجالات الزراعة والطاقة والصحة والمياه والتعليم. ويُنظر إلى جيش السودان على أنه من بادر بالتحرك لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وتولى الجيش زمام الأمور في البلاد منذ انقلاب في عام 2021 ولكنه يقول إنه يعتزم تسليم السلطة إلى حكومة مدنية. وعارضت جماعات مدنية ذلك التحرك وقالت من قبل إن أي اتفاق يجب أن يصدق عليه برلمان انتقالي لم يتشكل بعد.
السودان يركز على "تعزيز التعاون في المجالات الأمنية والعسكرية"
في المقابل، ركز السودان في إعلانه الرسمي عن زيارة كوهين، على أن الجانبين بحثا تعزيز آفاق التعاون المشترك ولاسيما في المجالات الأمنية والعسكرية. وفي بيان صادر عن إعلام مجلس السيادة السوداني، جاء أن البرهان التقى كوهين والوفد المرافق له بالخرطوم، بحضور وزير الخارجية السوداني علي الصادق. وأفادت وزارة الخارجية السودانية بأنه تم الاتفاق مع كوهين على المضي قدما في تطبيع العلاقات السودانية الإسرائيلية. وقالت الخارجية السودانية، في بيان، إنه خلال هذه الزيارة التي "استمرت لبضع ساعات"، وهي الأولى لوزير خارجية إسرائيلي إلى الخرطوم، "تمّ الاتفاق على المضيّ قدمًا في سبيل تطبيع علاقات البلدين".
وذكر بيان مجلس السيادة السوداني، أن وزير الخارجية الإسرائيلي وصل البلاد الخميس في زيارة رسمية استغرقت يوما واحدا. وأشار إلى أن اللقاء "بحث سبل إرساء علاقات مثمرة مع إسرائيل وتعزيز آفاق التعاون المشترك بين الخرطوم وتل أبيب في مجالات الزراعة والطاقة والصحة والمياه والتعليم ولاسيما في المجالات الأمنية والعسكرية" ودعا البرهان، وفق البيان، "الجانب الإسرائيلي إلى تحقيق الاستقرار بين إسرائيل والشعب الفلسطيني".
ولفت إلى أن اللقاء تناول أيضا "الدور الذي يلعبه السودان في معالجة القضايا الأمنية في الإقليم"، على حد تعبيره؛ في حين قال مصدر عسكري سوداني إن "الوفد الإسرائيلي أجرى مباحثات مع المسؤولين العسكريين السودانيين تناولت التنسيق الأمني وتبادل المعلومات بين البلدين".
من جانبها، قالت الخارجية السودانية إنه "مواصلة للاتصالات السابقة بين السودان وإسرائيل، قام وزير الخارجية الإسرائيلي، كوهين، يرافقه وفد من وزارة الخارجية الإسرائيلية الخميس، بزيارة للسودان"، وأضافت إن الوفد الإسرائيلي "التقى وزير الخارجية، علي الصادق، وعددا من المسؤولين في الدولة، كما التقى في ختام الزيارة رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان". وذكر البيان أن المباحثات "تطرقت إلى تطوير علاقات البلدين في المجالات المختلفة خاصة الزراعة والطاقة والصحة والمياه والتعليم"، وأكد أنه "تم الاتفاق على المضي قدما في سبيل تطبيع علاقات البلدين"، مضيفا إن "الجانب السوداني حث الطرف الإسرائيلي على العمل لتحقيق الاستقرار والسلام بين إسرائيل والشعب الفلسطيني".