الوقت- لطالما كان السياق الديموغرافي والثقافي للأردن، منذ بداية تشكيل السلالة الهاشمية وحتى اليوم، أرضية مناسبة لصعود التيارات الاحتجاجية السياسية والاجتماعية. ولطالما وفّر عدد كبير من السكان من أصل فلسطيني، الذين لديهم تاريخ من التحضر والنشاط الاجتماعي والسياسي منذ الأيام التي سبقت تشكيل "المملكة الأردنية الهاشمية"، قاعدة مناسبة لظهور التيارات السياسية والأيديولوجية.
ودعم هذا الجزء من الشعب الأردني الحركة الفلسطينية المسلحة حتى نهاية الصراع العسكري العنيف بين الحكومة الأردنية والجماعات الفلسطينية عام 1971، وفي تلك السنوات، إلى جانب النضال ضد النظام الصهيوني، كانوا يتخيلون أحيانًا الإطاحة بالنظام الصهيوني والعائلة الهاشمية، وهذا الوهم تسبب أيضا في وقوفهم علنا ضد الحكومة الأردنية في سبتمبر 1970. وبعد قمع تلك الجماعات المسلحة، تقدمت جميع الحملات والحركات السياسية في الأردن تقريبًا على شكل أحزاب ونقابات، وباستثناء عمليات الجماعات السلفية الجهادية، لا نرى أي آثار للكفاح المسلح والعنف في الأردن. .
لكن في الأيام الماضية، قوبلت معرفتنا بالاتجاهات الاجتماعية السياسية في الأردن بأمثلة على الانتهاكات. وفي 5 ديسمبر 2022، بدأ الإضراب الوطني لمركبات النقل والركاب احتجاجًا على الزيادة السادسة في أسعار الوقود في العامين الماضيين، وبعد أيام قليلة من بدء هذا الإضراب، تم أيضًا تشكيل احتجاجات في الشوارع. كما قيل، الأردن ليس غريباً على مظاهرات الشوارع، لكنه لا يعرف عنف المتظاهرين والتخريب.
وفي خضم هذه الأحداث، نواجه ظاهرة المتظاهرين الملثمين الذين يحاولون هدم أعمدة الإنارة على طريق معان - عمان السريع (طريق جنوب شمال الأردن السريع) ولقد وصلت هذه الاحتجاجات إلى نقطة حيث يقوم عدد من مركبات النقل بإلصاق شبكة معدنية أمام نوافذها حيث تقلل من آثار الحجارة في إلحاق الضرر بالمركبة؛ وتضطر سيارات الشرطة لمرافقة حافلات الركاب على الطرق بين المدن في الجنوب.
وعلى صعيد متصل، أكدت وكالة الأمن العام الأردنية، يوم أمس السبت، خلال إصدار بيان لها أنها تعاملت مع أعمال شغب في عدة مناطق بالأردن، والآن تم تكثيف الإجراءات الأمنية في هذه المناطق لضمان تنفيذ القانون وسلامة المواطنين. وأعلنت الأجهزة الأمنية الأردنية عن اعتقال 44 شخصًا في الاحتجاجات الأخيرة، وقالت إنه تم تكثيف الإجراءات الأمنية في بعض المناطق. وجاء هذا الإجراء من قبل الأجهزة الأمنية بعد أن أكد الملك عبد الله الثاني ملك الأردن في كلمته أن التخريب عمل خطير ضد الأمن القومي الأردني ولن يسمح باستمرار مثل هذه الأعمال.
وقال الملك عبد الله إن الناس يمرون بظروف اقتصادية صعبة ولهم الحق في إبداء الرأي في إطار القانون وبطرق سلمية، لكن الجهات الحكومية ستتعامل مع أي مخالفة للقانون. كما قال وزير الداخلية الأردني إن على الشعب الانفصال عن المشاغبين خلال الاحتجاجات السلمية. كذلك قال شهود عيان إن الحكومة الأردنية جلبت الدبابات والعربات المدرعة إلى الشوارع لقمع الاحتجاجات.
ولقد أدت الزيادة في أسعار الوقود إلى الضغط على دخل الأسر وتسببت في أضرار جسيمة للفئات ذات الدخل المنخفض. ووعدت الحكومة بالنظر في مطالب سائقي الشاحنات، لكنها دفعت بالفعل أكثر من 500 مليون دينار (700 مليون دولار) لخفض أسعار الوقود هذا العام ولا يمكنها القيام بذلك إذا أرادت تجنب انتهاك الاتفاق التي وقعته مع صندوق النقد الدولي. وفي 2018، اندلعت احتجاجات مماثلة في مدن أردنية مختلفة، خفت حدتها بعد أسابيع قليلة بوعود الحكومة بحل المشاكل الاقتصادية. وكانت الاحتجاجات في السنوات الأخيرة سلمية في الغالب، ودعت إلى إصلاحات ديمقراطية وكبح الفساد، لكن يبدو أن المشاكل ظلت دون حل، ما دفع المعارضة إلى النزول إلى الشوارع مرة أخرى.
وهناك حاجة إلى مزيد من الوقت والبيانات للإجابة على وجه اليقين عن سبب حدوث مثل هذه الإجراءات؛ ولكن من الممكن الآن سرد بعض أسباب مثل هذا السلوك:
1- أدت المواجهة المستمرة للحكومة مع الأحزاب الرئيسية والمعتدلة، والخلافات الداخلية الجادة للحركة الإسلامية (أهم معارض سياسي للحكومة الأردنية) إلى تضاؤل قدرة الحزب على التعبئة، وجزء مهم من النشاط أوصل شكل "الحزب" "الإرشادي والمخطط والمنظم" إلى شكل "الفرد المشتت والمدمّر".
2- في الوضع الحالي للعالم، عندما تتحدث الإحصائيات عن زيادة الفقر العالمي وفي ظل ارتفاع الأسعار بعد الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فإن الحكومة الأردنية، التي هي نفسها وريثة الأزمات الاقتصادية المستمرة، يمكن أن يكون أقل بكثير مما كان عليه في الماضي من خلال تطبيق الإعانات على السلع الأساسية. والحفاظ على المظالم السياسية للمجتمع صامتة؛ وهنا يمكن أن نفهم عدم قدرة الحكومة على دفع دعم الوقود في هذا السياق. وإضافة إلى ذلك، نعلم أن الجزء الأول من المجتمع الذي يتأثر بتغير أسعار الوقود هو الأقل امتيازًا وفقرا؛ لذلك، من الواضح أن شكل الاحتجاجات الآن اقتصادي أكثر منه سياسي. والناشطون الرئيسيون في الاحتجاجات هم أفقر شرائح المجتمع الأردني. وهذا الموضوع واضح في مدن الجنوب، وخاصة معان، في هذه الاحتجاجات.
3- منذ عام 2017، مارست شبه الجزيرة العربية والنظام الصهيوني ضغوطاً على الأردن حتى يقبل هذا البلد باستضافة فلسطينيي الضفة الغربية. لكن الأردن يقف ضد هذه الضغوط لعدم قدرته على الاستجابة لاحتياجات السكان التي ستضاف إلى سكانه. وازدادت هذه الضغوط في حكومة نتنياهو الجديدة، وتحدثت وكالات الأنباء الصهيونية عن اتفاق بين نتنياهو وحزب "الصهيونية الدينية" على إنهاء قضية الضفة الغربية خلال هذه الفترة. لذلك يمكننا أن نتخيل أن جزءًا من هذا البرنامج المشترك بين السعودية والنظام الصهيوني سيتجلى في شكل تحريض جماعات الشغب على تخريب البنية التحتية. ويمكن أن تكون الأضرار التي لحقت بمركبات النقل وأعمدة الإنارة الكهربائية لإغلاق الطريق الاستراتيجي لميناء العقبة شمال البلاد جزءًا من هذه الخطة.
والعام الماضي، وفي خضم فضيحة حمزة بن الحسين، نشرت وكالة أنباء "آمون" أنباء عن علاقة ضابط في الموساد يُدعى "روي شابوشنيك" بحمزة. وبعد تلك الحادثة، سُجن باسم عوض الله (رئيس المحكمة الأردنية وأحد شخصيات الفساد الشهيرة في الأردن) بتهمة التعاون مع المملكة العربية السعودية، فهل استسلم ائتلاف الرياض وتل أبيب المزدوج بعد انتهاء قضية حمزة "المؤقتة" أم لديه أوراق أخرى في يده؟
وعلى الرغم من أن الاحتجاجات الأخيرة في الأردن لها أبعاد اقتصادية، إلا أن الشعارات التي رفعتها المعارضة تظهر أنها اتخذت أيضًا نكهة سياسية وطالبت المعارضة بإسقاط النظام الملكي. وكان المحتجون يأملون في أن تتحقق الإصلاحات التي وعدت بها الحكومة في السنوات الماضية، لكن يبدو أنه لم يتم تنفيذ أي إصلاحات في البلاد. وفي بداية ما سمي الربيع العربي، وعد الملك الأردني الشعب أن يتم انتخاب رئيس الوزراء من قبل الشعب، ولكن بعد أكثر من عقد من هذا الوعد، لا يزال رئيس الوزراء يعينه الملك نفسه. وتعارض أنظمة المملكة العربية بشدة أي انتخابات لها مظاهر ديمقراطية يلعب فيها الشعب دورًا، وعلى الرغم من الاحتجاجات إلا أنها غير مستعدة لإعطاء نقاط ايجابية للشعب.