الوقت- يسخر الإيرانيون الذين التقيناهم في طهران من بعض الإعلام العربي والغربي، ويقولون إن النظام الإسلامي في إيران كان "يسقط" في اليوم ثلاث مرات عبر أجهزة إعلامية موجهة تكبّر الأحداث التي وقعت على خلفية وفاة الشابة الإيرانية "مهسا أميني" الشهر الماضي. لا أحد ينكر وقوع أحداث وتظاهرات محدودة وأعمال شغب عديدة. لكنهم يحيلون أسبابها إلى شقين:
1 - قبل هذه الأحداث بأشهر كانت لدى أجهزة الأمن الإيرانية معلومات عن إدخال أسلحة إلى البلاد والتحضير لأعمال شغب وعنف، وكذلك قيام أفراد مرتبطين بأحزاب ومجموعات معارضة تعيش في الخارج ولديها خلايا في الداخل إلى دولة أفريقية لتلقي التدريب على السلاح والشغب، وفي دولة تقع جنوب شرق أوروبا يجري التدرب على إدارة الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وسبل استثارة الناس وفق برنامج بات معروفاً في كل العالم من خلال "الثورات الملونة". الهدف الأميركي في تبني هذه الاحتجاجات كان الضغط على إيران لتقديم تنازلات في المفاوضات النووية على نحو أساسي، وهو يتهمها بدعم روسيا في أوكرانيا عسكرياً وتعزيز موقفها في وجه الغرب. أما السعودية فقد مولت و"إسرائيل" أرسلت سلاحاً وتم ضبط وثائق وأسلحة ومعدات تعزز هذه المعطيات. وعندما وقعت قضية "مهسا أميني" كانت بمثابة ساعة الصفر لتنفيذ مخطط أمني وتخريبي يقوم على الشغب والفوضى بشكل أساس، ويستدرج الشرطة وقوات الأمن إلى معارك تسقط فيها دماء، الأمر الذي يوسّع دائرة التناقض بين الشارع والدولة ويؤجج الاحتجاجات.
2 - مشكلات اجتماعية واقتصادية يعانيها الشباب الإيراني، مثل غلاء نسبي للسلع وبعض الأسعار، حيث قامت الحكومة برفع الدعم منذ أشهر عديدة، لتلافي الانكماش وخفض نسبه وتأثيره المباشر على الاقتصاد. ولا تغيب فرص العمل عن مطالب الشباب من الجامعيين الذين يعانون نقص الفرص الموازية لمستوى شهاداتهم الجامعية. وفي هذا السياق يقولون إن الأعمال والوظائف العادية متوافرة بدليل دخول مليوني لاجئ أفغاني إيران بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان قبل أكثر من سنة في شباط/فبراير عام 2021، جميعهم اليوم يعملون في مختلف أنحاء البلاد إلى جانب 5 ملايين لاجئ كانوا مقيمين من سنين ويعملون في مهن شتى. في إيران اليوم 4 ملايين طالب جامعي، لا بد للدولة (التي يعتمد عليها الإيراني كثيراً) إيجاد فرص عمل لهذا العدد من الطلاب المتخرجين كل عام. وعلى الرغم من خطط الحكومة في الإسكان والتمدد العمراني الظاهر في طهران، يتحدث الإيرانيون عن أزمة سكن تعاني منها بعض الطبقات الاجتماعية وترتفع الأصوات المطالبة بوتيرة أسرع في حلها تواكب حجم الطلب على سوق العمل وسوق السكن. هذه هي المشكلات دفعت آلاف المحتجين إلى المشاركة في التظاهر وكان عددهم بالآلاف.
قامت الحكومة منذ البداية بالتعامل مع هذه الاحتجاجات وفق منطق الاحتواء والفصل بين المحتج السلمي والمشاغب المدفوع بأجندة تخريبية. كثير ممن شاركوا في التظاهرات والاحتجاجات كانوا أصحاب مطالب اقتصادية واجتماعية وسياسية. جرى تفكيك واحتواء الموقف من خلال قمع الشغب وتقديم المشاغبين إلى محاكمات علنية يبثها التلفزيون الإيراني بوجود محامين، وفتح حوار في الجامعات مع الطلاب ليقولوا كل آرائهم. ومع أن بعض الجامعات شهدت في داخلها تظاهرات لعشرات من الطلاب إلا أن الشرطة كان ممنوعاً عليها دخول حرم الجامعة مع قيام البعض بالتخريب والاستفزاز.
بهذه الطريقة جرى إيقاف هذه الموجة من الاستهداف للنظام والمجتمع في آن معاً. مستوى الخدمات والضمانات الاجتماعية ونسبتها من دخله الشهري منخفضة جداً مقارنة بأي دولة في المنطقة. الكهرباء وأنابيب الغاز الممتدة إلى المنازل والإنترنت والمياه لا تتعدى دولارات قليلة على سعر صرف التومان مقابل الدولار، وهي مبالغ لا تذكر. التعليم والصحة مجانيان، وهنالك تعليم خاص لمن يشاء من المواطنين المقتدرين. شبكة الطرق طولها عبر البلاد 350 ألف كيلومتر، والمواصلات الداخلية جميعها مؤمنة بما يتناسب والرواتب، السكك الحديد والطيران الداخلي بين كل المحافظات والمترو في طهران، ومنها إلى مطار الإمام الخميني الذي يبعد ساعة ونصفاً عن العاصمة في السيارة.
المشاريع الجديدة لا تتوقف وفي السنوات الأخيرة شهدت طهران تمدداً مخططاً في جميع الاتجاهات. العمران الحديث والمولات الضخمة والجسور والحدائق والبحرية الاصطناعية (في القانون يجب أن نكون نسبة الشجر في كل مدينة %20).
لماذا قد يفرط الإيراني بكل ذلك؟ ومن أجل ماذا؟
الشعب الإيراني يعرف أن بلده غني وقادر، وهو يريد المزيد على الرغم من النهضة التي يراها أمام عينيه، والأحداث الأخيرة ستفتح الباب لمزيد من التطوير ومحاكاة طموحات الشباب والحوار الدائم معهم حتى لا يستثمر فيهم الخارج المتربص فهؤلاء أولادنا كما يقول المسؤولون والمعنيون.
المجتمع في إيران متنوع ولديه عاداته وتقاليده وتراثه ومقدساته. ثقافة المجتمع إسلامية والنظام الإسلامي هو روح الأمة والسلطة الناظمة لحياة 85 مليون إيراني يمثلون لوحة فريدة من الأعراق والثقافات والأديان والمذاهب.
في الحياة السياسية ثمة تيارات داخل النظام وتنوع في الأفكار وانتقاد للذات قبل الخارج يمارسه مسؤولون عبر وسائل الإعلام الرسمية، وهنالك انتخابات وتمثيل سياسي لكل المكونات العرقية والدينية والإثنية. ليس في الشارع مظاهر القمع التي يسوّق لها إعلام الدول القمعية والغرب الذي فضحته أزمة أوكرانيا في تعامله مع الروس، وكل ما هو روسي.
الشباب والفتيات (بعضهن غير محجّب ولبعضهن يضعْنه منتصف الرأس، وكذلك حجاب كامل وعباءة) المقاهي والمطاعم والشوارع والأسواق والمقامات الدينية مكتظة على الدوام. الكنائس وأحياء تقطنها أقليات دينية وعرقية. هذه الدورة الطبيعية للحياة في "دولة_أمة" لماذا يفكر أي إيراني أن يخسرها؟ وقد شاهد بعينيه ما جرى في سوريا وليبيا والعراق واليمن؟
معيار التقدم والتطور لأي دولة في العصر الحديث، يكمن في مستوى الخدمات والبنى التحتية والمواصلات والتعليم الأساسي والعالي والصحة والصناعة والتكنولوجيا المتطورة وقوة الاقتصاد. وإذا تكاملت هذه العناصر مع شخصية وطنية وتراث تاريخي ممتد إلى آلاف السنين نكون أمام تجربة تستحق أن نفهمها بعيداً من المواقف السياسية والحملات الإعلامية المغرضة والشيطنة والتشويه.
منذ 44 عاماً تتعرض الجمهورية الإسلامية في إيران لجميع أنواع الحروب. وحرب المعلومات واحدة من الحروب التي ضللت الكثيرين في فهم التجربة.
الصراع الدولي مع إيران لم يتوقف منذ قيام الثورة. الحرب العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية والإعلامية لم توقفها عن التقدم والتطور في جميع المجالات. وإيران نفسها لم توقف التعبير عن جوهرها ورؤيتها وثقتها بنموذجها السياسي والثقافي والحضاري على الرغم من المعارك المكلفة والحصار والعقوبات والتربص والاستهداف.
يكفي على سبيل المثال الإشارة إلى أن الدستور الإيراني ينص صراحة على واجب الجمهورية الإسلامية بأن تدعم المستضعفين في العالم حتى نفهم منطلقاتها الفكرية والركائز الثقافية التي تجعلها تدعم الشعب الفلسطيني والمقاومة في لبنان وسوريا والعراق واليمن وغيرها.
المعركة المفتوحة مع إيران من قبل الخارج، لم تأتِ على حساب الداخل الذي تأثر بالحصار والعقوبات بالتأكيد، ولكن في الحصيلة بعد هذه السنوات، ثمة ما يمكن لإيران أن تقوله على هذا المستوى: كيف لدولة محاصرة ومقيدة بالعقوبات والمقاطعة من قبل الغرب أن تكون بهذه القوة على الصعيد العلمي والخدماتي والتكنولوجي والعسكري؟ كيف استطاعت الصمود وتطوّرت ولم تتخلف؟ كيف نهضت ولم تنهر وتذوي وتنفجر من الداخل كما يريد الغرب؟ واليوم، هي لاعب إقليمي ودولي لديه شراكات جادّة مع نصف الكوكب، وصراع واشتباك مع من تبقى، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية و"اسرائيل"؟
هي تجربة إنسانية وحضارية شهدها العالم بين أواخر القرن الـ20 وبدايات القرن الـ21، وسيكون مفيداً فهمها بعيداً من العاطفة في تأييدها، والغرائز والاصطفافات في معاداتها.
(قام كاتب المقال بزيارة طهران ومشهد في إيران بين 3 و10 من تشرين الأول/نوفمبر الجاري)