الوقت - في حين أن الولايات المتحدة وأوروبا على ما يبدو في جبهة واحدة لإلحاق الهزيمة بروسيا في أوكرانيا للانتصار على منافسهم التقليدي، تتردد هنالك أنباء في هذه الأيام تشير إلى حدوث انقسام في المعسكر الغربي.
فعلى الرغم من اعتقاد البعض أن الولايات المتحدة جعلت من أوكرانيا ذريعةً لإضعاف روسيا من أجل سوق موسكو نحو حرب شاملة، فقد تم الكشف الآن عن زوايا أخرى من هذه الخطة، والتي تُظهر أنه إضافة إلى موسكو، فإن الإضرار بأوروبا أيضًا علی جدول الأعمال لمشروع واشنطن.
أعلنت بعض وسائل الإعلام أن أمريكا تدرس مؤخرًا خطط دعم الشركات الأوروبية لنقل إنتاجها إلى أمريكا، بسبب نقص الطاقة في أوروبا وتقليل مشاكلها.
واتفقت فرنسا وألمانيا، اللتان ستعانيان أكثر من غيرهما من هذه الإجراءات، على أن الاتحاد سينتقم إذا سنت واشنطن قانون الانكماش الذي من شأنه أن يوفر تخفيضات ضريبية ومزايا للطاقة للشركات التي تستثمر في تلك البلدان.
واتفق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز على أنه إذا لم تتراجع الولايات المتحدة، فسيتعين على الاتحاد الأوروبي الرد بسنّ حوافز مماثلة للشركات لمنع المنافسة غير العادلة أو خسارة الاستثمار. لأن مثل هذه الإجراءات يمكن أن تقود العلاقات في إطار الناتو إلى حرب تجارية جديدة.
يأتي برنامج أمريكا الجديد في وقت أصبحت فيه موارد الطاقة في أوروبا نادرةً للغاية بسبب قطع صادرات الطاقة الروسية، وتكبد العديد من الشركات الكبرى خسائر بسبب هذه المشكلة.
وكان خبراء أوروبيون قد حذروا سابقًا من أنه إذا لم تتوقف الحرب في أوكرانيا واستمرت أزمة الطاقة، فسيتم إغلاق العديد من الشركات في الشتاء، وتعتبر هذه القضية تحذيرًا خطيرًا لاقتصاد دول هذه القارة.
وبالنظر إلى أنه لا تزال لا توجد هناك رؤية واضحة لانتهاء الحرب في أوكرانيا ولم يتم بعد تحديد الطرق البديلة لإمداد الطاقة، لهذا السبب من المرجح أن تقوم بعض الشركات بنقل إنتاجها إلى الولايات المتحدة، بسبب الجاذبية التي نشأت في هذا البلد.
في الأشهر الأخيرة، فرضت الدول الأوروبية العديد من القيود على الاستهلاك المنزلي والشركات، ما أثار استياء الناس. ومع ذلك، قد تكون الأسر قادرةً على التعايش مع نقص الطاقة لفترة من الوقت، وحتى الحفاظ على الدفء ببدائل أخرى غير الغاز إلی حين تجاوز الأزمة.
لكن الشركات التي تحتاج بشكل عاجل للنفط والغاز لإنتاجها، لا يمكنها مواجهة هذه الأزمة وهي مضطرة لاتخاذ قرارات أخرى، لأن بضعة أشهر من الإغلاق لن تعالج مشاکلها فحسب، بل قد تؤدي أيضًا إلى الإفلاس.
بسبب أزمة الطاقة، فإن بعض الوظائف في الصناعات الثقيلة التي تستهلك الكثير من الكهرباء، مثل الألمنيوم أو الفولاذ أو المصانع الكيماوية، تواجه الآن العديد من المشاكل وتواجه معضلة البقاء في أوروبا أو البقاء في بلد آخر.
لذلك، تختار هذه الشركات الأوروبية الكبيرة أسهل طريق ممكن، حيث تحاول الذهاب إلى دولة أخرى للتخلص من هذا الوضع، وعوامل الجذب والفوائد التي وضعتها أمريكا تغري هذه الشرکات، لأنها ستكون أكثر ربحيةً من أوروبا نفسها بسبب دفع ضرائب أقل.
الإضرار بفرنسا وألمانيا
الأمريكيون غير راضين عن تحركات ألمانيا وفرنسا لتقليل اعتمادهما على واشنطن ومحاولة إنشاء ناتو عربي مستقل عن الناتو الحالي في السنوات الماضية، وكانوا يبحثون عن فرصة للإضرار بهذه الدول، وتقدم الأزمة في أوكرانيا الآن للبيت الأبيض الفرصة المناسبة لابتزاز حلفائه.
منذ الحرب العالمية الثانية، حاولت أمريكا دائمًا إبقاء أوروبا تحت هيمنتها ولا تتحمل تزايد قوتها، والآن تحاول إضعاف الأوروبيين وإبقاءهم معتمدين عليها، من خلال إخراج الشركات الكبرى من أوروبا ونقلها إلى الولايات المتحدة.
وتعني هذه القضية سحب رؤوس أموال بمئات المليارات من الدولارات من القارة الخضراء وضخها في الاقتصاد الأمريكي، الأمر الذي سيؤدي إلى نمو وازدهار صناعة هذا البلد.
وفي وقت سابق، أظهرت أمريكا من خلال بيع غازها للأوروبيين بأربعة أضعاف الأسعار، أنها تبحث عن مصالحها التجارية في خضم الأزمة الأوكرانية، وأن الدعم الظاهري ليس سوى غطاء لوجود أمريکي قوي في أوروبا.
منع توجُّه الأوروبيين إلى الصين
إضافة إلى محاولة إبقاء الأوروبيين في فلكها بخططها المثيرة للجدل، تسعى أمريكا أيضًا إلى هدف آخر هو المواجهة مع الصين.
ففي الوقت نفسه الذي تستعد فيه بعض الشركات الأوروبية لنقل صناعاتها إلى أمريكا، اختار البعض مكانًا آخر لنفسه. وعليه، أعلنت شركة "BASF" الألمانية، وهي من أكبر منتجي الكيماويات في ألمانيا، أنها تخطط للانتقال إلى الصين بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة واللوائح المفرطة للحكومة الألمانية.
وقال الرئيس التنفيذي للشركة المصنعة للمواد الكيميائية: "تعرض هذه الظروف الصعبة في أوروبا القدرة التنافسية الدولية للمصنعين الأوروبيين للخطر، وتجبرنا على تكييف هيكل التكلفة لدينا في أقرب وقت ممكن وكذلك بشكل دائم. لدينا تجارة مربحة للغاية في الصين ونصف السوق العالمية موجود هناك، فما هي المخاطر إذا تخلت شركة ما عن نصف السوق؟".
وأعلنت الشركة أنه منذ بداية الحرب في أوكرانيا، ارتفعت تكاليف المواد الخام الكيماوية والبلاستيكية والمبيدات بنحو 2.2 مليار يورو مقارنةً بعام 2021، وتركت الكثير من الأموال على عاتق مديري الشركة. كما انخفضت إيرادات الشركة هذا العام بمقدار 7.8 مليارات يورو مقارنةً بالعام السابق.
وذکرت الشركة أنها ستخفض التكاليف السنوية بمقدار 500 مليون يورو، أو حوالي 10 في المئة، في أوروبا بحلول عام 2024، والتي ستشمل خفض الوظائف.
هذا العملاق الكيميائي، الذي تبلغ قيمته 93 مليار دولار، يستهلك من الغاز القدر نفسه الذي تستهلكه سويسرا بأكملها. ومع ذلك، فإن أزمة الطاقة يمكن أن تكلفها الكثير في المستقبل. ولهذا السبب، تخلى مديرو هذه الشركة عن البقاء في ألمانيا لتقليل التكاليف.
وفقًا لذلك، سيتم تخفيض تكاليف الشركة بمقدار 10 مليارات يورو بفعل المجمع الكيميائي الذي تخطط لبناءه في زانجيانغ، جنوب الصين. لأن هذه الشركة ستعمل بالكامل باستخدام الطاقة المتجددة، وهذا سيساعد الأسواق المزدهرة في آسيا ويقلل من اعتماد الصين على أوروبا لتوريد المواد الكيميائية، وقد أدى هذا الإجراء إلى تكثيف مخاوف الحكومة الألمانية بشأن الاعتماد الاقتصادي على شريكتها التجارية، الصين.
يأتي خروج الشركات من أوروبا إلى جهات خارجية، في حين أن الزيادة الحادة في أسعار الطاقة لها تأثير أعمق على القطاعات الصناعية، وينظر أصحاب الشركات الكبيرة في التكاليف والفوائد في المواقف الحرجة لاتخاذ قرار مصيري. وقد نشأ هذا الوضع الآن بالنسبة للشركات الأوروبية الكبيرة، وهي تحاول إنتاج صناعاتها في البلدان التي تتمتع بربحية أكبر وأمن اقتصادي أكثر.
وبالنظر إلى الإعلان عن استعداد بعض الشركات الأوروبية لنقل صناعاتها التحويلية إلى الصين، تحاول أمريكا تقديم مزايا أكثر من المنافس الصيني حتى لا تميل الشركات الأوروبية نحو الصين.
تعتبر الصين حاليًا تهديدًا كبيرًا للمصالح الأمريكية بسبب قوتها الاقتصادية المتزايدة، ووجود عمالقة اقتصاديين أوروبيين في الصين سيضع هذه الدولة في موقع متميز مقارنةً بواشنطن. لذلك، يحاول مسؤولو البيت الأبيض جعل أمريكا الوجهة الوحيدة للشركات الأوروبية، وسيعارضون نقل هذه الشركات إلى الصين، وقد يلجأون إلى العقوبات لمعاقبة هذه الشركات.
ومثل هذه التحركات الأمريكية تظهر حقيقة أن واشنطن لا ترحم حتى حلفائها، وهذه القضية هي درس للدول التي ربطت اقتصادها وأمنها بسياسات واشنطن.